ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يجري فيها «عصف» فكري ونقاش موسع داخل حلقات سياسية ودوائر من النخب السياسية والأكاديمية المسيحية والمارونية. في المكتبة المارونية، آلاف الأوراق والنقاشات للقاءات متنوعة داخل مطرانيات أو جامعات أو مراكز أبحاث تابعة لمؤسسات كنسية جرت في السنوات الأخيرة. وقد تكون أبرزها الورقة السياسية التي أقرها المجمع الماروني واستحقت نقاشاً حول بعض تفاصيلها السياسية، إضافة إلى أوراق أخرى صادرة عن مراكز أبحاث مارونية حول ملفات سياسية كانت مطروحة في دوائر بكركي أيام البطريرك الراحل نصرالله صفير، إلى أن فُقد تأثير هذه المراكز تدريجاً.ولم تغب النقاشات عن لجان موسعة انطلقت مع تولي البطريرك بشارة الراعي سدة البطريركية، لكن دورها كان يتقدم ويتراجع بحسب الظروف، إلى حد أن أفكاراً طرحها الراعي من الحياد إلى المؤتمر الدولي لم تكن وليد نقاشات هذه الدوائر، بل نتيجة عمل فريق اقتصر أحياناً على عدد محدود من المقربين من بكركي. ومنذ أن غاب لقاء قرنة شهوان، افتقدت الكنيسة الحضور السياسي بالمعنى العميق للنقاش السياسي الذي كان يرعاه المطران الراحل يوسف بشارة.
مع بروز اسم راعي أبرشية انطلياس المارونية المطران أنطوان بو نجم في ملف الرئاسيات، محاولاً التمثل بما فعله سلفاه المطرانان بشارة وكميل زيدان بمستويات مختلفة، بدا لبعض الراغبين في دور متعدد الاتجاهات للصرح، أن ثمة حراكاً يمكن التعويل عليه، في توسيع حلقة النقاش من بكركي إلى مطارنة يسعون إلى لعب دور سياسي تحت عباءتها ومن ضمن خطها. اصطدمت حركة بو نجم بتعثر سياسي من القوى السياسية التي قيّدت حركته بمعايير أنهت المبادرة الرئاسية في مهدها، وجعلت من اللائحة الرئاسية مطيّة لكل من يرغب في إلحاق اسمه بمصاف المرشحين بتسويات مضمرة. علماً أن الراعي وفريقه لم ينظرا بارتياح إلى حركة مطران انطلياس، فاستعاد الراعي المبادرة، وكان لقاء بيت عنيا الذي كرس عملياً انتهاء مبادرة بو نجم الرئاسية، ومعها حركة بكركي في ملف شائك، تملك القيادات المارونية يداً طولى فيه.
لكن حركة بو نجم أعطته، مع تشكيله فريقاً متابعاً، بعض الحيثية إزاء مطارنة آخرين يسعون مع الفاتيكان، ومع بعض العلاقات المحلية، إلى تعزيز مواقعهم تمهيداً لمراحل مستقبلية، من دون الانغماس في ملفات داخلية يعرفون تماماً أن تأثير الداخل اللبناني قليل فيها. هذه الحيثية المحلية دفعت بعدد من الشخصيات القريبة من القوى السياسية إلى التحرك، متكئة على حركة بو نجم نفسه، لبدء نقاشات سياسية تمهيداً لصياغة ورقة سياسية تحاكي الرؤية المستقبلية للوضع اللبناني. ويتعزز وضع هذه الحوارات كون راعي أبرشية انطلياس يلتقي اتجاهات سياسية مختلفة وتجمعات سياسية غير حزبية تطرح أفكاراً سياسية متنوعة تضم مختلف الاتجاهات والطروحات المتعلقة بالنظام اللبناني، ومنها ما يثير إشكالات داخلية كالفيدرالية. وهذا يوسّع مروحة النقاش، لكنه يبقيه داخل أطر محددة، فلا الأحزاب تتبناه رسمياً كون الشخصيات المعنية تدور في فلكها لكنها ليست مكلفة رسمياً بخوضه، ولا بكركي تغطي «رسمياً» هذه النقاشات ما يعطيها حرية حركة وهامشاً أوسع لتبني أو رفض ما يمكن أن يخلص إليه المتحاورون. علماً أن ما يجري لا يزال ضمن أطر منفصلة، أي من دون حوارات جامعة على طاولة مستديرة تضم مختلف من يقدمون هذه الطروحات، ولا تزال الخطوات الأولى قيد الإعداد.
أصل هذه الحوارات ينطلق من فكرة أن الأزمة الحالية تتعدى موضوع انتخاب رئيس للجمهورية، وأن دور بكركي يجب أن يكون أبعد من رئاسة الجمهورية، لأن الأزمة الحالية شاملة وكبيرة، وتتفاقم رغم انتخاب رئيسين للجمهورية منذ 2005. فالانتخابات لم تحل الإشكاليات الواقعة في إدارة الدولة ولا في الثغر التي نتجت من سوء تطبيق اتفاق الطائف، وما لم يطبق فيه كاللامركزية بأشكالها. كذلك فإن الصراع لا يزال هو نفسه بالنسبة إلى ملفات شائكة ومنها سلاح حزب الله، إضافة إلى التمسك بنهائية الكيان وتطبيق القرارات الدولية وإعادة التمسك بالأسس التي أرساها الدستور واتفاق الطائف.
بقدر ما تعطي بكركي هامشاً للنقاشات وتباركها تسعى إلى أن تكون لها الكلمة الأخيرة


تحفل الطروحات بأفكار متنوعة بحسب مقدميها، سواء كانوا حزبيين مقربين من الأحزاب المسيحية الكبرى، أو مجموعات تطرح أفكاراً فيدرالية أو نقاشات معمقة حول الطائف وتعديلاته. لكن الفكرة الأساس أن المتحركين يستظلون حركة بو نجم وتقدّمه على المشهد السياسي والإعلامي لوضع ورقة سياسية تطرح لدى جاهزيتها على قيادات الصف الأول وعلى بكركي في صورة رسمية، لأن أي حل للأزمة الكبرى لن يكون مرتبطاً بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وهذا يعني النظرة في صورة مكبرة على النظام اللبناني.
حتى تنضج أكثر ظروف الحوارات وعناوينها، يمكن النظر إلى موقف بكركي ومجلس المطارنة والقوى السياسية المسيحية التي ستكون أمام استحقاق مقاربة الورقة التي قد تخلص إليها النقاشات. فلكل من هذه القوى أجندتها السياسية ورؤيتها للنظام اللبناني وللطائف والعلاقات بين المكونات الأخرى، وحتى بالنسبة إلى سلاح حزب الله، ومن الذي يقدر أن ينقل الخلاف الداخلي بين هذه الأحزاب وأكاديميين وشخصيات تقدم نفسها على أنها تملك أطراً للحل الدائم، إلى مستوى نقاش سياسي موسع، والخروج منه بخلاصة موحدة. أما بكركي فبقدر ما تعطي هامشاً للنقاشات وتباركها مباركة أولى، تسعى إلى أن تكون لها الكلمة الأخيرة في ما يتعلق بإدارة الإكليروس أي حوار سياسي، فكيف إذا كان الأمر يتخطى الزواريب المحلية والعلاقات الحزبية ليكون على مستوى تقديم ورقة سياسية شاملة، تفترض آلية متابعة وعلاقات مع المكونات الأخرى. وهذه حتى الآن كانت ولا تزال ملكاً لبكركي وحدها.