يبدو أن هناك من يريد أن يغيّر الإيديولوجيا العالمية للمياه. ليس هذا وحسب، هناك من يريد أن يستغل أكبر قضية تواجه البشرية مثل تغيّر المناخ لتغيير الإيديولوجيا أو النظرة إلى المياه وتغيير طرق إدارتها واستثمارها. هذا الاتجاه بدأ واضحاً في المؤتمرات الدولية التي تُعقد سنوياً من أجل المياه، ومنذ بدء الترويج للاستثمارات الكبيرة في الإدارة مثل إنشاء السدود السطحية الضخمة المكلفة، أو في الاستثمارات الضخمة أيضاً في تحلية مياه البحار المالحة وكلّ ذلك تمهيداً لتبرير خصخصتها، أي دفع الدول للاستدانة لإنشاء مشاريع استثمارية ضخمة على المياه، ومن ثم الضغط على الدول لفرض نظم قانونية وإدارية بحجة استرداد الكلفة، تقوم على وضع تعرفة عالية ومتصاعدة وتحويل المياه إلى سلعة قابلة للبيع والإتجار، بدل أن تكون حقاً من حقوق الإنسان، مثل الهواء تماماً، ما على الدول سوى تأمينها بعدالة لكلّ الناس ووضع السياسات الضامنة والآمنة لذلك.
فهل كان العالم بحاجة إلى تلك الاستثمارات الضخمة فعلاً لسدّ الحاجات؟ وما هي الحجج التي بدأت في ما يُسمى مشاريع التنمية وانتهت أخيراً بضرورة التكيف مع التغيّرات المناخية، ولا سيما تلك المظاهر المناخية المتطرّفة التي تنتج فيضانات وجفافاً في الوقت نفسه. ليس المطلوب إنكار التغيّرات المناخية للتصدي لتبريرات كبار المستثمرين في قطاع المياه، الصناديق الدولية المموّلة والمروّجة للمياه كاستثمار وسلعة كالبنك الدولي. وهذا ما يفعله البعض عن جهل أو عن تواطؤ لتقديم حجج واهية تكذّبها التغيّرات المناخية كلّ سنة فعلاً.
مع أن قضية تغيّر المناخ تشكل حجة إضافية لصالح المياه نفسها ولصالح حق الشعوب فيها، الشعوب الحالية وتلك الآتية أيضاً، ضمن قواعد العدالة المناخية ذاتها. فلا حاجة إلى استثمارات كبيرة وتبرير التسليع لو تمّ احترام النظم الإيكولوجية المولّدة للمياه في الأنظمة السياسية والاقتصادية.
ولم يكن هناك من معنى وداعٍ للحديث عن حقوق بلدان المنبع والمصبّ والكثير من النزاعات حول ما يُسمى المياه العابرة للحدود، لو تمّ احترام الإيديولوجيا الطبيعية للمياه والنظم الإيكولوجية المرتبطة بالمناخ وليس بتوزيع وهوية السكان. وتم تفسير الحق في المياه لكلّ إنسان سواء سكن بالقرب من النهر أو النبع أو بعيداً عنهما، لأن النظم الإيكولوجية المرتبطة بتوليد المياه من شمس وبحار ومحيطات وتبخّر وهواء ومساحات خضراء… غير مرتبطة بالتقسيمات الجغرافية الحدودية للدول والأقوام. والحقوق في المياه بالتالي هي حقوق أي إنسان أينما كان، وما على الدول سوى تأمين إدارة هذا المورد بعدالة وبحسب قواعد التوزيع العادل والأولويات الحياتية المتدرّجة من مياه الشرب أولاً، إلى باقي الاستخدامات المرتبطة بالغذاء والزراعة ومن ثم التصنيع والتزيين والترفيه... هذه هي الإيديولوجيا الطبيعية، بمعنى الأقرب إلى الطبيعة وأنظمتها وقوانينها والأقرب إلى حقوق الإنسان بوصفها جزءاً من الطبيعة وليس فوقها.
بالرغم من كلّ المشاكل التي أنتجتها فكرة التنمية التي تطلّبت المزيد من المياه، ومشاكل النمو السكاني وتهديد التنوّع البيولوجي وتغيّر المناخ، لا تزال الإيديولوجيا المتسبّبة بهذه الكوارث تروّج للمزيد من الاستثمارات! وهذا ما فعله البنك الدولي في تقريره الأخير الصادر الأسبوع الماضي تحت عنوان "اقتصاديات شحّ المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حلول مؤسساتية". يعلن هذا التقرير أن الكميات المتاحة للفرد في هذه المنطقة تنخفض إلى 500 م3 سنوياً بحلول عام 2050، وستكون هناك حاجة إلى 25 مليار متر مكعب سنوياً إضافية وأن ذلك يحتاج إلى إنشاء 65 محطة لتحلية المياه بحجم محطة رأس الخير في السعودية وهي الأكبر في العالم في الوقت الحالي! مع التحفظ على تقدير حاجات الأفراد وكيفية تحديدها.
يأتي هذا التقرير، بعد تقارير سابقة طالما كانت تروّج لاستثمارات كبيرة مثل إنشاء السدود السطحية الضخمة وبأكلاف عالية، وإرهاق موازنات الدول بالديون، هذه الدول التي تتعهّد بزيادة الكلفة على المواطنين بالطبع. ودائماً تأتي حجج تغيّر المناخ والشحّ وتوقع زيادة الطلب في طليعة تلك الحجج!
بناءً على "نصائح" البنك الدولي، استثمرت دول المنطقة المذكورة بتقنيتَي التحلية والتخزين خلف سدود مكشوفة، مرتّبة ديوناً كبيرة عليها، بالمقارنة مع استثمارات بديلة وصغيرة جداً من أجل ضبط الهدر وترشيد الاستهلاك في القطاعات كافة. وبالرغم من كلّ هذه المشاريع الكبيرة، لا تزال هذه الدول تعاني من مشكلة الشحّ نفسها، لا بل إن بعض هذه الاستثمارات على أنهار عابرة للحدود، أدّت إلى شحّ في دول أخرى! بالإضافة إلى مشكلة استسهال الاستثمار في الآبار والمياه الجوفية بشكل استنزافي. بالمقارنة أيضاً مع قلة الاستثمار في معالجة مياه الصرف وإعادة استخدامها في مجالات عدة وتوفير المياه العذبة… حتى بات ما يُقدر بأكثر من 60% من سكان هذه المنطقة يعيشون تحت ما يُسمى "الإجهاد المائي".
يتوقع التقرير أزمة لجوء جديدة ستضرب المنطقة المذكورة بسبب شحّ المياه، يمكن أن تتجاوز عشرة ملايين لاجئ! مع الإشارة الى أن 2.3 من سكان العالم في حالة هجرة ولجوء الآن (بحسب تقرير آخر للبنك الدولي) بسبب الأزمات الاقتصادية والسياسية، ويمكن أن تتضاعف هذه النسبة بسبب الكوارث المناخية التي في معظمها مائية (فيضانات وشحّ وجفاف)!
انطلاقاً من كلّ هذه المخاطر والكوارث، ألا يفترض تغيير إيديولوجيا الاستثمار والخصخصة المدمّرة التي وصلت إلى حدود أن تكون المياه موضوع تداول في البورصة العالمية! والعودة إلى الإيديولوجيّة البيئية الطبيعية للمياه، كما أسلفنا، وبالتالي تغيير استراتيجيات الدول للتنمية وتطوير وتوسيع شبكة الحقوق الدولية والمحلية للإدارة… للتكيّف فعلاً مع التغيّرات المناخية المتطرّفة والقاسية فعلاً؟! ولبنان في طليعة دول هذه المنطقة الذي كان يحتاج إلى استراتيجية معاكسة لتلك التي اتّبعها، كونه ينعم بنظام إيكولوجي مميّز لناحية وفرة موارده المائية، لم يكن بحاجة إلا إلى حسن الإدارة، وأن لا يَترك موضوعاً حساساً وحياتياً كهذا بيد التجار وسماسرة المشاريع الاستثمارية والإنشائية المكلفة. وللحديث صلة.