قلّة الكلام عن كيفية التعامل مع المناخات الجديدة السائدة في المنطقة والإقليم، لا تعني أن القوى الأساسية لا تدرس الأمر. ربما نحتاج الى وقت حتى نسمع كلاماً واقعياً حول نتائج ما يجري، وربما نحتاج الى وقت أطول لنزول المكابرين عن الشجرة. أما القلق فمردّه إلى أن بعض دول التسوية الإقليمية لا تعطي إشارات على أنها تضع لبنان في سلّة التسوية هذه، ما سينعكس مزيداً من الضبابية والفراغ.بالنسبة إلى القوى المنضوية في محور المقاومة، فإن هذه تنطلق من اعتبار أن ما يحصل يصبّ في خدمة تطلعاتها، وأننا أمام خطاب نصر جديد. وثمة شعور بالراحة يتجاوز كل القلق الذي ساد فترة المواجهة مع المحور الآخر، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. لذلك، يتصرف هذا الفريق على قاعدة أنه يجب أن تستند الاستفادة اللبنانية من التطورات القائمة الى قاعدة ميزان القوى الفعلي. بهذا المعنى، يمكن فهم إصرار هذا الفريق على السير بالمرشح سليمان فرنجية وعدم القبول بأيّ مرشح آخر، وعدم إرفاقه ترشيحه لفرنجية بنقاش جدي حول ما يمكن القيام به لتغيير الواقع الذي يعيشه الناس بسبب فساد الداخل لا حصار الخارج فقط.
أما الأطراف الأخرى، فلا يمكن جمعها في سلّة واحدة. لا يزال التيار الوطني الحر خارج دائرة التيار المعارض لحزب الله، بل في موقع خلاف مع الحزب حول ترشيح فرنجية لا يضعه خارج الحصاد الإيجابي لما حققه المحور في المنطقة. والتيار يريد أن يحفظ تمايزه من خلال تقديم خطاب انفتاح على أطراف المحور الآخر، من السعودية وقطر الى الغربيين إذا ما قرروا التعامل معه بطريقة مختلفة. لكنه ليس في الموقع نفسه مع القوات اللبنانية وحزب الكتائب وبقايا 14 آذار - من مستقلين أو «تغييريين» - الحزب التقدمي الاشتراكي.
بالنسبة إلى هؤلاء، يتحوّل القلق إلى ريبة وخشية من انعكاسات التوافقات المستجدّة في المنطق. الى حدّ أن أحد الناطقين باسمهم صارح السفير السعودي في بيروت وليد البخاري بمخاوفه، سائلاً إياه: هل قرّرتم بيعنا لإيران؟
هذه الأطراف تموضعت طويلاً في خندق قادته الولايات المتحدة وأوروبا من الغرب والسعودية ودول عربية من المنطقة. ويراقب أقطاب هذا الفريق السعودية وهي تقود، بنفسها، أكبر عملية مصالحة مع محور المقاومة، تبدأ بإيران وتمرّ بسوريا وتتجه صوب اليمن. وهو ما ينعكس درجة عالية من التوتر لدى هؤلاء، وخصوصاً أن هذه القوى تريد إظهار استقلاليتها بإعلان مواقف رافضة للتطبيع مع سوريا من جهة، أو التحذير من خطر الصفقات مع إيران من جهة ثانية. لكن، في حقيقة الأمر، ما تبحث عنه هو حجم تأثر لبنان بما يجري. هنا، تحديداً، نتحدث عن طرفين أساسيين هما القوات اللبنانية والحزب الاشتراكي.
في ما يتعلق بسمير جعجع، ثمة سياق يعمل عليه الرجل منذ نحو عقد، يقوم على فكرة إعادة تنظيم صفوفه بطريقة ثابتة، انطلاقاً من خطاب سياسي يثبت مواقفه المبدئية من كل الأزمات القائمة. ولكن، رغم أن خطابه يكرّر ما نعرفه منذ أربعين عاماً، إلا أن جعجع لا يفتقر الى الواقعية السياسية، وهو ما تعكسه طريقة تعامله سابقاً مع الاستحقاقات الرئاسية والحكومية. إلا أن التقدم الذي حقّقه حزب القوات في الانتخابات النيابية الماضية، عزّز موقعه لدى الطرف الإقليمي الأول، أي السعودية، علماً أن جعجع لم يجد سبيلاً لصرف إنجازاته على صعيد النفوذ في دائرة القرار أو داخل مؤسسات الدولة. وهو يتصرف اليوم على أساس مختلف: إذا لم يكن قادراً على فرض رأيه أو معادلاته، إلا أنه يملك قوة المشاغلة أو التعطيل في حال تمكّنه من صياغة تحالفات محلية قوية.
وبقدر ما ينتظر جعجع النتائج النهائية للمناخ الخارجي، يبني متاريسه العالية في ملف رئاسة الجمهورية، فيعلن مسبقاً أنه لن يسير بفرنجية. إلا أنه لم يجد، بعد، المخرج المناسب لتقديم تنازل ضروري ليكون هناك مرشح قوي آخر. وهذه مهمة غير سهلة طالما أن جعجع يريد أن يكون همّ مرشحه مواجهة حزب الله على وجه التحديد. وهو سمع مباشرة، من البطريرك الماروني بشارة الراعي والتيار الوطني الحر والحزب الاشتراكي وحتى من مستقلّين، أنهم يفتشون عن مرشح تسوية لا عن مرشح مواجهة. وهذا يفتح الباب أمام احتمال بقاء جعجع بعيداً عن قطار التسوية إن سار على سكّة آمنة.
مع ذلك، تبقى مشكلة جعجع أقلّ تعقيداً من مشكلة وليد جنبلاط لأن القوات قادرة على البقاء خارج معادلة الحكم مع خطاب مرتفع، فيما ليس في وسع جنبلاط تحمّل كلفة من هذا النوع. فهو لا يريد أن يكون خارج السلطة ولا قدرة له على ذلك، لأن طبيعة النظام الطائفي تفرض عليه الانخراط في أي تسوية سياسية والبقاء داخل الدولة بكل مؤسساتها. فـ«مصالح الطائفة» لا تنتظر، وستجد من يتابعها إن هو تخلّف عن ذلك، وهناك جيش من المتطوّعين في الانتظار. عدا عن أن جنبلاط قرأ أفضل من غيره نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة. ورغم فوز مرشحيه، لمس تحوّلاً غير عادي في اتجاهات الناخب الدرزي وسلوكياته في أكثر من دائرة، ويدرك أن في إمكان معارضيه العمل أكثر لكسر الاحتكار الذي يمثله في قيادة الطائفة.
جعجع يحتاج إلى باب لتنازل يفيده في وجه فرنجية وموقف البخاري زاد قلق جنبلاط


غير أن الوجه الآخر لمشكلة جنبلاط، أنه غير قادر على السير في تسوية قبل اكتمال عناصرها الداخلية والخارجية. فهو لم يعد يضمن حلفاً إسلامياً على ما كان الأمر عليه في فترة الوجود السوري في لبنان، ولا يمكنه فتح باب الخصومة مجدداً مع المسيحيين ككتلة واحدة. وما يزيد موقفه تعقيداً هو الرأي السعودي الحالي. فجنبلاط يريد أن يسمع عبارات سعودية واضحة، سواء مع هذا المرشح أو ذاك، أو ضدّ هذا المرشح أو غيره، ولا يملك ترف تفسير عبارات غامضة من نوع «لا يهمّنا الأمر من أساسه، فهذا بلدكم وأنتم أحرار في ما تتخذونه من قرارات». بالنسبة إلى جنبلاط، هذه «حيادية كاذبة» ولا تفيده بشيء، لا بل تعقّد مهمته. فلا هو قادر على السير بفرنجية لأنه يشعر بأن الموقف السعودي الحالي قد يقود الى وضع يشبه ما كان قائماً مع الرئيس ميشال عون، ولا هو قادر على خوض معركة ضد فرنجية ترفع منسوب التوتر بينه وبين ثنائي أمل وحزب الله، عدا عن كونه بدأ يرى، من قعر الوادي وليس من على التل، عودة التأثير السوري على لبنان وغيره.
في حالة جنبلاط، لا يمكن قيادة السيارة وسط ضباب كثيف. إن أراد السير بمرشح، يجب أن يحدّد مسبقاً الجهة التي ستشتري موقفه. وهو إذ يراقب السعودية خارجة من السوق، وسوريا لا تفتح له باب الدخول الى المزاد، وفرنسا غير قادرة على تعويضه الخسارة الإقليمية، يشعر بضيق يضطرّه إلى أن يغلق غرفته على نفسه، ويرى الشياطين ترقص من حول منزله. فكيف إذا ما أضيف إلى ذلك كله عامل جديد يتعلق بما يريد تركه لابنه تيمور، الذي يبدو - حتى اليوم - راغباً في صياغة معادلات جديدة للعمل السياسي. فما ينقل عن الابن ولا ينكره الأب، أن تيمور لا يوافق والده على تكرار صيغة التسويات، ويرفض وصول فرنجية.
لا يبدو لبنان اليوم في حالة استعداد عملاني لملاقاة المناخات المستجدة في المنطقة. لكن ما ينبغي التنبّه إليه جيداً هو أن تكون السعودية، على وجه التحديد، تريد للبنان أن يبقى ساحة فالتة، يمكنها من خلاله التفاوض على تفاصيل المرحلة الجديدة مع سوريا وإيران. في هذه الحالة، يمكن فهم ما قاله البخاري لمعارضي فرنجية: صحيح أننا رفعنا الفيتو عنه، لكننا لا نلزمكم بشيء. متروك لكم أن تظهروا قدرتكم على تعطيل العملية، وعندها سنكون إلى جانبكم!