في لبنان، دار نقاش طويل حول فعالية قانون الآثار القديمة الصادر بموجب القرار 166/ل.ر وتعديلاته. إذ إن قانون الأثريات الساري في لبنان كما هو معلوم، يطبّق بموجب سلسلة قرارات صدرت في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي من قِبل المفوض السامي الفرنسي. يتألف قانون الآثار القديمة من 111 مادة، عُدّل سبعٌ منها، وصدرت قرارات عدة على مدى سنين ومراسيم وزارية لجعله «أكثر مرونة». ففي عام 1988 صدر القرار الرقم 8 المعدّل الذي نظّم الاتجار بالآثار، ثم صدر القرار الرقم 8 عن وزير السياحة بتاريخ 1990 الذي جمّد رخص تجارة الآثار ورخص التصدير بعدما انتشرت الفوضى جرّاء الحرب الأهلية اللبنانية. وتتالى صدور مراسيم وزارية للإضافة على قانون الآثار القديمة وزيادة فعاليته، منها المرسوم رقم 3050 الذي نظّم كيفية تأليف مجلس إدارة الهيئة العامة للمتاحف وتحديد مهامه وصلاحياته وقواعد تسيير أعماله وكيفية ممارسة سلطة الوصاية لرقابتها عليه، والمرسوم رقم 3057 الذي نظّم آلية التدخلات الميدانية الأثرية التي تقوم بها المديرية العامة للآثار في مجال الحفريات الوقائية والإنقاذية، والمرسوم رقم 3058 الذي أفضى بدمج وإعادة دمج الآثار غير المنقولة في الأبنية والمنشآت المدنية الخاصة والعامة، إضافة إلى المرسوم رقم 3065 الذي رمى إلى تنظيم الجرد العام للآثار القديمة المنقولة. واهتم المرسوم رقم 4381 بتنظيم إدارة وتسيير الصندوق الخاص بالآثار والمنشآت التراثية والتاريخية. وعدّ البعض هذه المراسيم والتعديلات الكثيرة بمثابة «ترقيع» لقانون الآثار الذي يُفترض إعادة النظر فيه ككل، فما هي المآخذ عليه؟
بعض المآخذ على قانون الآثار الحالي
■ التعريف: لا يوجد فيه تعريف واضح للأثر، لكنه يميّزه من خلال الفاصل الزمني، فيقول إن كل ما صنعته يد الإنسان قبل 1700م يُعدّ أثراً من دون تحديد الطبيعة المادية لتلك الآثار.
■ الاقتضاب: عدّ القانون كل المكتشفات التي تعود إلى ما بعد 1700م «شبيهة بالآثار»، سمّاها غير المنقولة، وصنّفها إلى 4 أنواع: البنايات والإنشاءات فوق الأرض والمطمورة تحتها، لكنه لم يفصّل عن البقية وعدّها آثاراً منقولة.
■ الخطر على الأبنية التراثية:
أ- عندما ميّز المشرع بين الآثار القديمة التي تعود إلى ما قبل العام 1700م، وبين الآثار الشبيهة بالقديمة وهي المصنوعة بعد العام 1700م، قال إنه يجب إدراج الأخيرة في قائمة الجرد العام للأبنية التاريخية لحمايتها، فجمّد إمكانية تصرّف صاحبها بها لمدة 6 أشهر، تمهيداً لصدور مرسوم من رئيس الدولة بتسجيلها كآثار تاريخية بناءً على اقتراح مدير دائرة الآثار (المادة 26)، هذا يعني أنها لا تُعدّ تاريخية إلّا بصدور المرسوم أو القرار، ما يفسّره البعض على أنه «مرتبط بالإرادة السياسية».
ب- على ضوء حماية الأبنية التراثية في بيروت، شكّل ضمّ الأبنية في الخمسينيات والستينيات إلى قائمة الجرد العام للأبنية التاريخية وسيلة لحمايتها، لكنها تستوجب حكماً مبنياً على «المصلحة العامة» (وهو مصطلح ليس معرفاً بدقة في القانون) وإلا لصاحبها الحقّ في التصّرف بها وهدمها، لا سيّما أن قانون البناء يمنح المالكين في المناطق القديمة في بيروت الحقّ في «استثمار أعلى»، لذلك يلجأ أصحاب الأعمال إلى هدمها.
■ محدودية صلاحيات مدير دائرة الآثار عند التعدّي على الآثار: لم يعط المشرع أي نصّ يجيز لمدير دائرة الآثار اتخاذ القرارات المناسبة لإزالة التعدّيات عن الآثار، واكتفى بإعطاء الصلاحية إلى رئيس الدولة أو المفوض السامي في لبنان على ضوء اقتراحات يقدّمها مدير دائرة الآثار (راجع المادة 24)، وهو ما يجب تعديله طالما أنه لم يعد هناك مفوض سام في لبنان.

(آثار بيروت ــ أرشيف ــ مروان طحطح)

■ تحديد إذا كان الأثر مالاً عاماً: لم يعرّف القانون الأثر، كما أنه لم يضع تعريفاً واضحاً لماهية «المال العام» واكتفى بجعل المصلحة العامة معياراً لتحديده. لذلك إذا ارتأى القضاء في إحدى الحالات المتنازع عليها أن أثراً معيّناً لا يُخصص للمنفعة العامة استطاع مالكه التصرف فيه بشكل شرعي، لذلك أصبح هناك انقسام في الأثر على ضوء التشريعات المتعلقة بالمال العام، فأصبحت الملكية الفردية للآثار خاضعة لقواعد القانون الخاص، والملكية العامة للآثار خاضعة لقوانين القانون العام.
■ جواز تملّك الأفراد للآثار المنقولة: غفل المشرع اللبناني في المادة السادسة من قانون الآثار على شمل الآثار المنقولة ضمن الآثار التي لا يجوز تملّكها بالتقادم، واكتفى بذكر غير المنقولة، ممّا يشير إلى أنه يجوز للأفراد التصرّف فيها.
■ جواز الحجز على الأثر: لم ينصّ المشرع اللبناني على عدم جواز الحجز عن الأثر صراحةً.
■ العقوبات الخفيفة جرّاء التعدي على الآثار: في ظل الانهيار الاقتصادي الحالي وارتفاع قيمة الدولار مقابل الليرة، لا تزال العقوبات المادية جرّاء التعدي على الآثار ضئيلة. فتنصّ المادة (30) مثلاً على أنه «لا يمكن هدم البناء المسجل أو نقله من محله حتى ولا نقل جزء منه ولا ترميمه أو تصليحه أو تحويره بدون رضى دائرة الآثار القديمة.. ويعاقب مرتكبها بجزاء نقدي من 50 إلى 5000 ل.ل.».

اقتراح قانون جديد لن يبصر النور
سنة 1958، استرد مجلس النواب بموجب المرسوم رقم 19767 مشروع قانون الآثار المقترح سنة 1950، وفي عام 1995 تقدّم عالم الآثار البروفيسور حسان سلامة سركيس باقتراح تعديل قانون للآثار إلى مجلس النواب، أورد فيه أن الغاية منه «ليست التعديل لوجه التعديل» لمجرد أن القانون القديم مصاغٌ من قِبل «الأجانب» و«المنتدبين». فقال: «القانون الذي يطالب الكثير بتغييره فقط لأنه يعود إلى العشرينيات أو الثلاثينيات من القرن الماضي، قد وفى من وجهة نظرنا بنسبة عالية جداً المطلوب منه في حلّ جميع المشكلات الإدارية في مجال الحفريات والاستملاكات ومراقبة الآثار وتجارتها، وإن كان هناك ضرورة في إعادة النظر في مواده». وأشار سركيس في مقدمته إلى أن النصّ القانوني «لن يغيّر الكثير»، لأن أكثر ما يؤذي القطاع هو الميوعة والسياسة الاستنسابية وغياب التطبيق العلمي في التعامل مع الآثار.
وجد المواطن المعوز، عند انهيار الدولة والقانون، مدّ يده إلى جيب أجداده حلاً لتأمين قوته اليومي

ولكن الحل، بحسبه، يكون في إرساء قواعد تفكير تاريخي - سياسي - أثري - تراثي - علمي، وإدخال روحية جديدة على العمل الأثري. يتألف اقتراح القانون الجديد من 114 مادة، تُشجّع التعامل مع الآثار بشكل إيجابي، بغية خلق حسّ عال بالمسؤولية تجاهها، فيذكر في المادة 110 و109 منه مكافآت مادية للمواطنين بقيمة 25% من قيمة الأثر، و50% من قيمة الأثر لقوى أجهزة أمن الدولة وأمن الحدود وأفراد الضابطة الجمركية في حال بلّغوا عن الآثار المسروقة ومصادرتها.

تضارب مصالح
«قانون الآثار قادر على الحماية ولكن بشكل محدود جداً، فالفريق في مديرية الآثار نشط ويقوم بجهد كبير لحماية الأبنية التراثية في بيروت، لكن في الوقت عينه إذا لم يُغيّر القانون فلا يوجد راع» تقول المهندسة المعمارية والناشطة في مجال حماية الأبنية التراثية سينتيا بو عون لـ«القوس». وتُضيف: «إحدى أهم الثغرات الجوهرية الموجودة في القانون أنه يحمي الآثار وليس التراث»، فالأثر تعبير جامد، بينما التراث شيء حيّ. وتلفت بو عون إلى أن «ضم عقار معيّن إلى لائحة الجرد العام للأبنية رهين العلاقات السياسية في كثير من الحالات، فإذا أراد صاحب عقار معيّن أن يستثمر فيها، ولديه علاقات مميّزة مع الوزارة، يستطيع ببساطة أن يطلب منها أن تمحوه من على لائحة الجرد العام، إذ تكرّر هذا أكثر من مرة».

لو كانت هناك إرادة سياسية لأبصر قانون الآثار الجديد النور، فكبار المطوّرين العقاريين والمستثمرين لهم علاقات ممتازة مع أهل السلطة ويُعدّ هذا تضارباً في المصالح


وتتابع: «علينا أن نعي أيضاً أن القانون الحالي يحمي الأبنية المنفردة ولا يحمي المجموعات». فقيمة المجموعات التراثية تتمثّل بأنها تعطي طابعاً عريقاً لمنطقة ما، لكن يحدث أحياناً أن لا يكون فيها مبنى محمي، فيُهدم ويُبنى برج مكانه، ممّا يُشوّه هذه المجموعة، «كما حدث في منطقة مار مخايل». موضحة أنه «قد بدأ العمل في التسعينيات، على مشروع حماية التراث، وجرى أول مسح في فترة وزير الثقافة آنذاك ميشال إده، وحُدّدت الأبنية التراثية الموجودة في الأحياء المجاورة لوسط بيروت، وعلى أساسها سُجّلت لائحة بالأبنية، ووضعت عدة اقتراحات علمية لتعديل القانون». وتؤكد بو عون أن «المشروع قد وصل إلى اللجان النيابية عام 2017، ولكن، منذ ذلك الوقت لم يعرف اللبنانيون مصيره. ولو كانت هناك إرادة سياسية لأبصر هذا القانون النور». وتختم: «لا نريد أن ننسى أن هناك تضارب مصالح، فكبار المطوّرين العقاريين في لبنان والمستثمرين لهم علاقات ممتازة بالأشخاص الموجودين في السلطة وحتى بعض السياسيين يمتلكون شركات عقارية».
(راجع «الأخبار»، 3 تشرين الثاني 2018، المباني التراثية «تحميها» قوانين «أكثر تراثية»).

ستنتقم الناس من الآثار
لا أحد يدّعي أن خطوة تعديل القانون ستؤول إلى حماية التراث اللبناني في الوقت الحالي وستزيل التعدّيات عنه، لأن حال هذا الملف، كحال الكثير من الملفات التي تراكمت عليها الأخطاء جرّاء نوايا مختلفة. أضف عليها أنها ليست ضمن أولويات السلطة، كما لا يعدّها جزءٌ من المواطنين أنها تمسّهم على الصعيد الشخصي والاجتماعي. لكنها في الوقت عينه، تثير نقمتهم. إذ تتوالى الأخبار التي تشير إلى ارتفاع محاولات المواطنين لسرقة أثريات في المواقع الأثرية، وتُعيدنا هذه الحوادث إلى ما ذُكر في اقتراح القانون سنة 1995 «لو أن المسؤولين عن الآثار عملوا لتثقيف الشعب حول قيمة تراثه، لكانوا أقاموا في ذهن المواطن حاجزاً معنوياً شخصياً رادعاً، من شأنه أن يمنع سرقة الآثار، وأن يخفّف من أضرار التنقيب السرّي عن مخلّفات الجدود وتراثهم». أضف أن «فشة الخلق» بالمنقّبين الصغار وغضّ النظر عن المسوّقين الكبار، «أدى عند انهيار الدولة والقانون إلى رد فعل انتقامي من قِبل المواطن المعوز الذي وجد حلاً لتأمين قوته اليومي بمدّ يده إلى جيب أجداده».



هل تتهرب الدولة من دفع التعويضات؟


عند صدور اقتراح بتسجيل مبنى ضمن الأبنية التاريخية، تُجمّد إمكانية تصرف صاحب العقار به لمدة 6 أشهر تمهيداً لصدور مرسوم من رئيس الدولة بتسجيله. في هذه الحالة، ينصّ القانون على أن الدولة غير ملزمة بدفع تعويض لصاحب العقار بعد التسجيل، كما يشار في المادة (36)، إلا إذا اقتضى الأمر. أما في الحالة الأخيرة، فتتشكل لجنة فنّية للنظر في دفع التعويض كما تنصّ المادة (38) من قانون الآثار القديمة. يشير البعض لـ«القوس» إلى أن الدولة باتت تتهرب من دفع التعويضات بعد الأزمة الاقتصادية، فأصبحت تكتفي بوضع قيد على العقار، لأن القيد لا يلزمها بالتعويض، فالقيد بحسب المادة (23) «يوجب على أصحاب الملك أن لا يباشروا على أرضهم أدنى تحوير في العقار أو في قسم من العقار المقيّد وبصورة عامة أن لا يأتوا عملاً من شأنه تغيير منظر الأثر أو تغيير ميزته بدون أن يعلموا قبل شهرين دائرة الآثار القديمة عن نيّتهم هذه وأن يعيّنوا التحويرات أو الأشغال التي ينوون إجراءها».