لن نعود في هذا المقال إلى معاش المتقاعد من أساتذة الجامعة اللبنانية قبل الأزمة، الذي يُقدَّر متوسطه بأربعة آلاف دولار أميركي، بل سنعود إلى ثمانية أشهر خلت، عندما «أكرمتنا» الحكومة بمساعدة شهرية تساوي المعاش مع تحديد سقفين لها، ثم أضافت مساعدة أخرى لنحصل آخر الشهر على ثلاثة أضعاف المعاش.يُظهِر الخط البيانيّ (باللون الرمادي) في الرسم المرفق تطور المعاش الشهري للأستاذ الجامعي. كما يُظهِر الخط البيانيّ (باللون الأسود) تطوّر سعر صيرفة للقطاع العام. ويتضح من هذا الرسم أن المعاش كان 440 دولاراً ثم 402 دولار في كلٍّ من أيلول وت1 من عام 2022، وكانت قد أُقرّت آنذاك مساعدة اجتماعية واحدة للعاملين والمتقاعدين في القطاع العام، بعدها أُقِرت مساعدة ثانية ليصبح المعاش مضروباً بثلاثة أضعاف، فارتفع الدخل الشهري إلى 600 دولار.



خسارة 92.5% من القيمة الشرائية
وهنا بدأت مسيرة انحدار مجموع الدخل (من معاش ومساعدات) مع ارتفاع سعر صيرفة الذي تدرّج من 30.1 ألف ليرة في أول تشرين الثاني، إلى 60 ألف ليرة في أول شهر نيسان 2023. وانخفض فيه الدخل من 600 دولار أميركي إلى 300 دولار، أي أننا خسرنا نصف ما تم الاتفاق عليه في مكتب رئيس الحكومة يوم أقِرَّت الأضعاف الثلاثة.
إذاً، القاعدة التي تحكم علاقة المعاش بسعر صيرفة هي كالآتي:
كلّما ارتفع سعر صيرفة انخفض المعاش التقاعدي. ومعروف أنَّ سعر صيرفة لا حدود لارتفاعه.
ومن هنا كانت المطالبة بتثبيت سعر الصرف للقطاع العام، عاملين ومتقاعدين، لتأمين حد أدنى من الاستقرار للرواتب والمعاشات، رغم ما يلحق بها من أضرار نتيجة التضخم وغلاء الأسعار واحتكار بعض السلع.
واللافت أن رفع سعر صيرفة كان يتم في 29 أو 30 من كلّ شهر، أي قبل قبض معاشاتنا أول الشهر بساعات، فيضعنا الحاكم أمام الأمر الواقع، أي قبض المعاشات على السعر المرتفع وغير المتوقع. وكم تشاركت تلك الخيبةَ مع العسكريين، أمام الصرّاف الآلي عند هذه المفاجآت! إنها بعض «سعدنات» الحاكم بأمره كما قال أحدهم.
ولكنَّ الحاكمَ موظفٌ عند الحكومة، وعليه التنسيقُ والاتفاق مع وزير المالية، و«سعدنات» هذا الأخير ليست بعيدة من إرادة أصحاب السعادة، وهنا سنبرّئ ساحة الحاكم، ونتهم الحكومة بتدهور معاشاتنا التي خسرت 92.5% من قيمتها الشرائية خلال ثلاث سنوات، فكيف تمّ ذلك؟ وأين الأموال؟ والمعروف أنها لا تتبخر كالماء، وننتظر الجواب من التحقيق الجنائي، إنْ سمح له معارضوه الذين نهبوا الأموال بإكمال التحقيق ونشره.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره


ماذا عن الإنفاق؟
نخطئ عندما نتكلم عن الدخل بمعزل عن الإنفاق. وهنا تكمن المشكلة والسؤال، فما هي أبواب الإنفاق عند الأسر المتوسطة، إنْ كان قد بقي بعض هذه الطبقة الوسطى؟ هذا ما سنحاول تقريبه من خلال الجدول المرفق، والذي يظهر أن كلفة أبسط المتطلبات تقارب الـ425 دولاراً. وهكذا يا عزيزي المتقاعد تدفع أكثر من معاشك على هذه الخدمات قبل أن تدخل إلى أسرتك خالي الوفاض.
ويبقى عليك عزيزي المتقاعد أن تتدبر بطريقة أو بأخرى أمرك لتأمين حاجات ربما يراها الحاكم بأمره وبأمر غيره من الكماليات، ويجب خفضها تدريجياً نحو الصفر، عن طريق تسفيرنا إلى الآخرة، فالتصفير للتسفير، وأمّا "الكماليات" فهي الآتية:
فاتورة الخُضر والفواكه، فاتورة اللحام والبقال، فاتورة الفران، فاتورة أدوات التنظيف المتنوعة، فاتورة الملابس والأحذية، فاتورة ناطور البناية والمصعد الكهربائي، نفقات صيانة المنزل، نفقات الحواسيب والطابعة ولزومها، نفقات تعليم الأولاد لمن عنده أولاد في سنّ الدراسة، الرسوم العالية التي فرضتها الحكومة على المعاملات في الوزارات المختلفة، وعلى الطوابع والسوق الموازية (تلطيفاً للسوق السوداء).
منذ بدء الأزمة لم أدخل مقهى ولا دار سينما ولا مسرحاً، كما أنّي لم أشترِ كتاباً


اعذروني إذا كنت قد نسيت بعض وجوه الإنفاق، فأنا منذ بدء الأزمة لم أدخل مقهى ولا دار سينما ولا مسرحاً، ولم أقصد حفلة موسيقية أو مطرباً في مطعم، كما أنّي لم أشترِ كتاباً أو مجلة، وبات غوغل مكتبتي ومجلتي وجريدتي، وحُرمت متعة القراءة على الورق.
بعد كلّ هذا، يتكرّم علينا الحكم والحاكم بثلاثة أضعاف جديدة للمعاش، ما أكرمهم!!! إنها هدية الأعياد، فافرحوا يا أطفال موظفي القطاع العام، ستة أضعاف لمن راتبه ثلاثة ملايين ليرة لبنانية سيقبض العيدية ( طبعاً معاش آخر الشهر) 200 دولار أميركي يوزعها على وجوه الإنفاق من كهرباء وهاتف وماء ومحروقات، هذا ما وصل إليه مجلس الوزراء، بعدما غسل بعضهم أيديهم من دمه، فتباً لكم جميعاً، لقد حصلتم على لعنة التاريخ، وبامتياز.
وأنتم أيها المتقاعدون عافاكم الله وإلى اللقاء في الساحات؛ «ففي يدكم الجرح وفي كفّكم الدواء».

* رئيس رابطة قدامى أساتذة الجامعة اللبنانية