من الواضح أن الكلام بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية يسير بخطوات متفاوتة في الملف الرئاسي. ما يجري أكثر من كلام وأقل من حوار على مستوى رسم خريطة الطريق بين الطرفين ووضعها على الطاولة تمهيداً لتنفيذها. في ضوء قنوات الاتصال النيابية الأخيرة، يمكن النظر الى ما يجري على أنه لا يزال يحتاج الى كثير من الدفع من أجل إنجازه، إذ انتقل حتى باختيار الشخصيات المحاورة من مكان الى آخر، علماً أن الحوار الذي بدأ على مستوى أفكار شاملة تتعلق بالنظام وبالوضع السياسي وتشعّباته، تقلّص تدريجاً الى عناوين محلّية الطابع أكثر منه حواراً شاملاً على مستوى الأزمة الكبرى.يتصرّف الطرفان بحذر في خوض مغامرة رئاسية جديدة، في ضوء التوقعات التي يرسمانها لما يمكن أن تسفر عنه الاتصالات المحلية والإقليمية، ويخوضان غمار الرئاسة من موقع الاتفاق على نقطة وحيدة، هي رفض ترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية. ما عدا ذلك، يتحكم الاختلاف بوجهتَي نظر. إذ كانت القوات تتوقع أن يندفع التيار الوطني أكثر نحو خطوات عملانية في ضوء تمسك الثنائي الشيعي بمرشحه وإصراره على أن الحوار هو في ما بعد ترشيح فرنجية وليس قبله، إلا أنها تراه في منتصف الطريق بين الضاحية ومعراب من دون أن يقطع النصف الثاني من المسافة. وكان التيار، من جهته، يتوقع أن تكون القوات أكثر تقبلاً ليدٍ ممدودة، وإن بتردد، في ضوء حاجتها الى أصوات التيار لإيصال مرشح آخر من لائحة ومواصفات يمكن الالتقاء عليها، فوجد أن القوات ماضية في استهداف لائحة المرشحين الذين يقبل بهم التيار، من دون أن تتقدم الى مساحة وسطية يمكن البناء عليها جدياً، رغم إشارات التيار المتكررة في اتجاهها. في ضوء هذا التجاذب، يصبح الحوار بين الطرفين معلّقاً على حبال رفيعة جداً، ولا سيما أن ما يجري إقليمياً يعطي لكل منهما دافعاً للتمسك بخياراته أكثر في ظل رؤيتين متناقضتين لآفاق الحركة الدبلوماسية الإقليمية. فتراهن القوات على أن السعودية ماضية الى الحدّ الأقصى في رفض التضحية بلبنان لحساب تسوية من طرف واحد، وبأن فرنسا لن تتأخّر عن التراجع عن مرشحها، فيما يراهن التيار على أنّ أيّ تسوية إقليمية لن تكون لمصلحة طرف بل لتسوية شاملة تضمن دخول الجميع إليها.
الحوار بين الطرفين معلّق على حبال رفيعة ولا سيما أنّ ما يجري إقليميّاً يعطي لكل منهما دافعاً للتمسّك بخياراته


مفارقة الحوار بين التيار والقوات أنه، كما في المرة السابقة، يمثّل نقلة يحتاج إليها حزب الله، لكن في شكل مختلف تماماً. لا يعوّل الحزب على أن الطرفين سيجترحان «أعجوبة» ثانية كاتفاق معراب، لأنّ ما يبعد الطرفين اليوم أكثر مما يجمعهما، ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع كان أكثر وضوحاً في التعبير عن استبعاد حصول اتفاق مماثل. ورفض جعجع وباسيل لفرنجية، سابقاً واليوم، يشكّل وحده مظلّة رادعة كي يعوّل الحزب على تسوية كبرى تضاهي تسوية وصول العماد ميشال عون الى قصر بعبدا. لكن الحزب الذي أدار ظهره لمناورات باسيل الرئاسية، يراقب بهدوء اتصالات الأخير مع القوات ليجسّ النبض حول اتجاهين، لا ثالث لهما، الأول أن باسيل سيصطدم برفض الالتقاء المسيحي الجامع معه مع مرور الأسابيع من دون أن يحقّق أيّ خرق، حتى مع القوات الطرف الأكثر قابليّة للحوار معه في ضوء التجارب السابقة، فيضطرّ الى تفعيل خطوط التواصل مع حزب الله، وإما يكون خارج التسوية التي قد تنتج في اللحظات الأخيرة للحوار الإقليمي رئيساً لن يكون سوى فرنجية.
لكن من يعرف باسيل، يدرك أنه لا يمكن أن يوافق بسهولة على تسوية مهما كانت المغريات والمكاسب الآنية منها لأنها سترتدّ عليه لاحقاً. وهو يراهن في المقابل على عدم استعجال الانضمام الى تسوية لا يرغبها، مراهناً على مواقف السعودية خارجياً ومعها أصوات قوى سنّية محلياً، كما على مواقف المعارضة بكل تلاوينها. وهذا وحده كافٍ بالنسبة إليه كي لا يسارع الى تقديم تنازلات غير مبرّرة في الوقت الراهن. لذا لا يستعجل أي تسوية رئاسية مع حزب الله، ولا سيما أنه رغم كل الخلافات الداخلية المعترضة على إدارته لملف الرئاسيات، لا يزال يتمتّع بالغطاء الذي يوفّره له موقف عون الذي يضاهيه رفضاً لتسوية فرنجية إن لم يكن أكثر عناداً منه في عدم القبول بها، وفي استغرابه موقف حزب الله المتمسّك بمرشحه الرئاسي. وهذا الأمر يشكل وحده مظلّة للتيار، يعرف باسيل كيفية الإفادة منها في مفاوضات الشروط والشروط المضادة. لكنه حكماً صار في موقع يحتاج فيه الى جرعة حوار داخلية تعزّز موقعه التفاوضي. ولا يبدو حتى الآن أن الحوار مع القوات وصل الى المربّع الآمن لكليهما. وهذا يريح حزب الله إذا أراد استعادة باسيل بشروط أقلّ كلفةً.