في بلدٍ تعطّلت محرّكاته الاقتصادية والسياسية بأغلبها، لا يزال هدير الذاكرة يصدح في أرجائه ممجّداً حقبة تاريخية باهرة. فالانزلاق الحرّ في أتون الأزمات والمآزق لم يفرمل بعدُ تعطّش اللبنانيين إلى الزمن الجميل، إلى زمنٍ عايش فيه لبنان أهم محطات القطار في المنطقة. ورغم أنّ قطار الحداثة قد فات اللبنانيين فعلاً، إلّا أنّ المبادرات الاستكشافية التاريخية مستمرة في تحصين الذاكرة، ومنها مبادرة «مشوار ع السكة» التي شكّلت دليلاً ثقافياً تاريخياً يعكس مكانة بعض محطات القطار في لبنان ورمزيتها. المبادرة التي أطلقتها جمعية «تران تران» بالتعاون مع جمعية «حقوق الركاب»، أتاحت للمشاركين تمضية نهار كامل في استكشاف معالم أمست اليوم تاريخية أثرية.«ع هدير البوسطة»، انطلق المشاركون من مار مخايل برحلةٍ استكشافية لخط بيروت- دمشق، مارّين بمحطات السكك الأهم الموزّعة على طول هذا الخط بشقّه اللبناني. على شكل قاطراتٍ متّصلة يحمل كلّ منها اسم أحد القطارات، سارت سبعة باصاتٍ للنقل المشترك طيلة الرحلة بالسرعة والوتيرة نفسيهما تجسيداً لفكرة القطار. أمّا عن أهداف «المشوار»، فهي لا تتلخّص بزيارة معالم تاريخية للسكة فحسب، إنما حملت في طيّاتها أهدافاً متعدّدة أهمها التشجيع على استخدام وسائل النقل المشترك والنقل البيئي السليم. اثنتا عشرة ساعةً قضاها المشاركون بين محطات السكك الحديد وأنفاقها، جمعت أبعاداً تاريخية وثقافية واجتماعية وسط أجواءٍ مفعمة بالألفة والتشارك.

حكايات من زمن السكة
من محطة مار مخايل حتى محطة رياق في البقاع، مروراً بمحطات بعبدا والجمهور وعاليه وعاريا وعين صوفر وسعدنايل على التوالي، كانت لـ«مشوار ع السكة» رسائل استراتيجية واجتماعية متنوّعة. فمن المحطة الأولى انطلق أوّل قطار في لبنان بتاريخ 4 آب عام 1895، وكانت له منّة في جعل مرفأ بيروت بوّابة المشرق، وجعل مدينة بيروت جسر تلاقٍ للحضارات في عصر لبنان الذهبي. أمّا المحطة الأخيرة، رياق، فكانت تُعدّ أكبر محطة قطار في المنطقة وحوَت حينه أهم معملٍ لإصلاح القطارات. لذا، لا تعادلها أي محطة من المحطات المذكورة مكانةً وأهمية.
عند كلّ محطة، استقبلت بعض الشخصيات الاجتماعية والثقافية والبلدية المشاركين في النشاط، حاملةً في جعبتها الكثير من حكايات السكة. في السياق الاجتماعي، تُعدّ مناطق بعبدا والجمهور وعاليه معقلاً للمعمّرين العاملين في مصلحة السكك الحديد، المتعطشين إلى رواية تجاربهم الشخصية. فشكّلت هذه المحطات ملتقى للأجيال المحبّة للقطار. عند محطة الجمهور، التقى المشاركون بأكبر معمّرٍ عاملٍ في السكك الحديد في لبنان، الياس أبو عتمة. وبنبرةٍ ملؤها الحنين والشغف، جلس أبو عتمة، الذي تجاوز عمره المئة عام، يقصّ على الحاضرين حكايات السكة من الزمن المجيد الغابر. وكانت للشخصيات البلدية حصّة من اللقاءات هذه، إذ عمد بعضهم إلى استقبال المشاركين وتعريفهم إلى المحطات الموجودة ضمن نطاق بلداتهم.

دور رائد للبلديات
شكّلت هذه الرحلة فرصة للإشارة الى التعدّيات الحاصلة على مسار السكك الحديد وأنفاق القطار في مناطق مختلفة من جهة، والإضاءة على الدور الفردي الذي تلعبه بعض البلديات اليوم للحفاظ على محطات القطار من جهة أخرى. ففي منطقة عاريا مثلاً، عدا التعديات السكنية على مسار السكة، عمدت وزارة الأشغال إلى تعبيد هذا المسار واستخدامه كطريق عبور للمركبات. بناءً عليه، يحذّر رئيس جمعية «تران تران» كارلوس نفاع من المساس بعقارات مصلحة السكك الحديد التي اعتبرها خطاً أحمرَ لا يُسمح بتجاوزه. كما ينبّه نفاع، باسم «التحالف الوطني لعدالة التنقل» ومختلف الجمعيات المعنية، من خطورة المسألة مشيراً إلى محاولات خنق مصلحة السكك الحديد وتهميشها تمهيداً لبيع أصولها.
وفي مقابل التعديات، اتّخذت بعض البلديات خطوات لحماية مصلحة السكك الحديد ضمن نطاقها، وتُعدّ بلديتا بعبدا وسعدنايل خير مثالٍ يُقتدى به، إن لناحية تنظيف المحطات أو ترميمها أو حمايتها من السرقات التي واجهتها، أو حتّى دهن القطارات الموجودة وإعادة تأهيلها.

النقل المشترك والبيئي: حاجة ملحّة
إلى جانب النشاط الاستكشافي، أخذت قيادة الدراجات الهوائية ضمن رياق، ختاماً، حيّزاً ترفيهياً ممتعاً للمشاركين. فقد قدّمت مؤسسة Beirut by bike الدراجات المستخدمة بالمجّان للمشاركين تحت إشراف البلدية. ولعلّ الهدف الأساسي من هذا النشاط هو الإشارة الى تاريخ رياق المتعلّق بالدراجات الهوائية، حين كانت هذه الدرّاجات تُعامل فيها معاملة السيارات الآن، من حيث ترخيصها ووجوب استخدام الإشارات وتعليق اللوحات المُرقَّمة وغيرها من الالتزامات، وقد وصل عددها الى ألفي درّاجة هوائية مرخّصة حينها.
تحذير من التعدّيات على عقارات مصلحة السكك الحديد تمهيداً لبيع أصولها


في السياق العام، كانت باصات النقل المشترك هي الراعي الرسمي لمختلف التنقلات في الرحلة الاستكشافية. من خلالها، أراد القيّمون على الرحلة لفت الأنظار إلى الأهمية الاجتماعية والاقتصادية لوسائل النقل التشاركية ولا سيما في الظروف الحالكة هذه. وهي تمثّل اليوم حاجة ملحّة لأصحاب الدخل المحدود، وتشكّل نمطاً بيئياً واجتماعياً سليماً في وجه الاعتماد الكلي على السيارات الخصوصية. يشير نفّاع إلى «أهمية دمج قطاع النقل المشترك وتنظيمه»، آتياً على ذكر الباصات الفرنسية وباصات أخرى موجودة في مصلحة السكك الحديد والنقل المشترك والمتوقّفة حالياً عن العمل. في هذا السياق، يندّد نفّاع بـ«إهمال الدولة لهذا القطاع وكأنّ غياب الدعم النيابي والحكومي له ينبئ بغاية مقصودة لشلّه والتصرّف لاحقاً بأصوله، أسوةً بمشاريع سابقة».

الزمن الغابر
لأنّ أعوام لبنان الماضية هي أخيَر من حاضره، تنظر الأبصار دوماً إلى الزمن الغابر. في عيد العمّال، «مشوار ع السكة» كان بمثابة نقرٍ بسيط على ذاكرتنا الجماعية، وفرصة مهمة للتعرّف إلى أهمية النقل المشترك والنقل البيئي السليم. واليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى، لا شكّ أنّنا بحاجة ماسّة إلى وسائل نقل تشاركية تؤمّن خدمات نقل مهمة للبنانيين وتحقّق عدالة التنقّل للعمّال.