يمكن تلمّس الأعذار لمن يرفضون الاعتراف بارتداع العدو الإسرائيلي، رغم إقرار العدو نفسه بذلك عبر انكفائه عن الساحة اللبنانية خشية ردّ فعل حزب الله، إذ إنّ اعترافهم يعني إقراراً مزدوجاً بالفشل: مرة نتيجة ثبوت خطأ خياراتهم الاستسلامية مقابل نجاعة خيارات الحزب، ومرة لفشل رهانهم على العدو الذي تتقاطع مصالحه العدائية مع خصومتهم للمقاومة.ثمّة أسئلة تثار منذ سنوات: هل لا يزال يحتاج ارتداع إسرائيل في لبنان إلى دلالات؟ وهل يضمن الارتداع ألا يعاود العدو اعتداءاته؟ وهل ولّت محاولات فرض الإرادة السياسية والاقتصادية والتبعية الإسرائيلية على لبنان؟
الردع بالمنع والردع بالعقاب اتجاهان رئيسان، يتكاملان في ما بينهما، لنظرية الردع التي امتهنتها إسرائيل منذ أكثر من سبعة عقود، وحقّقت لها الغلبة في معظم صراعاتها، وأحياناً من دون مواجهات مباشرة.
يُعد الردع أحد مركّبات العقيدة الأمنية للدول والكيانات العسكرية. وهو يهدف، في حده الأدنى، إلى منع العدو من المبادرة إلى الإيذاء خشية التبعات أو الفشل. في الردع بالمنع، يدرك الطرف المبادر مسبقاً أنه لن يحقق ما يرمي إليه فيتراجع كي لا تكون مبادرته بلا جدوى. أما في الردع بالعقاب، فإنه يدرك مسبقاً أن ما ينتظره من رد فعل وخسائر قد يفوق ما سيجنيه. بعبارة أكثر مباشرة، يخاف من اللاجدوى ومن الفشل مهما فعل، ومن العقاب إن حقّق فائدة ما.
غير أن الردع لا يمكن أن يحقق مفاعيله ما لم تتوافر مقدّماته: قدرة فعلية على الصمود، أو على الأقل إفهام الطرف الآخر بوجود قدرة على الصمود تلغي الأمل بإمكان تحقيق فائدة، وقدرة مادية على الرد بما يتناسب أو يزيد على الفعل المبادر إليه.
إلا أن الردع ليس حكراً على طرف دون آخر. وهنا تكمن مشكلة إسرائيل مع حزب الله، إذ ليس سهلاً على كيان العدو، وعلى من يتقاطع معه في المصالح، أن يتحول الرادع إلى مردوع، وإن حافظ على كونه رادعاً، في ما يُسمى الردع المتبادل.
لنعاين ما لدى حزب الله من مقدّمات، قبل الحديث عن ردعه ومستواه:
يتطلب الردع مقدّمات ثلاثاً: امتلاك القدرة المادية على الإيذاء، وإرادة وقرار بتفعيل هذه القدرة في حال عمد العدو إلى الاعتداء على أن يفوق الأذى الذي يلحقه الردّ المكاسب التي يحققها العدو. وكلّما ارتفع مستوى الإيذاء كان مستوى الردع الابتدائي مرتفعاً.
ورغم أن القدرة الإيذائية لإسرائيل أعلى مما لدى حزب الله، إلا أن ما لدى الأخير ما يكفي لمنع العدو من المبادرة. وفي هذا السياق، تدرك إسرائيل قدرة حزب الله الإيذائية جواً وبراً وبحراً، وتعاظمها كماً ونوعاً ومدىً، إضافة إلى «الوافد الجديد»، وهو القدرة على توجيه ضربات دقيقة يعدّها العدو كاسرة لكل التوازنات.
وقد تنامت قدرة الحزب الإيذائية إلى حدّ إعطاء مفاعيل ردعية مضاعفة يُحسب لها على طاولة التخطيط والقرار في تل أبيب قبل اتخاذ أي قرار بالاعتداء. فإذا كانت جدوى الاعتداء مقابل ثمن «معقول» يبادر العدو، وإلا، فلا معنى لدفع ثمن أعلى من الجدوى. وهذه المعادلة تسري على إسرائيل وحزب الله على السواء.
ولو كانت المعادلة تقتصر على القدرة المادية، لكان الطرفان عمدا إلى المبادرة الاعتدائية من دون تردد. لكنّ السؤال الذي يطرحه الطرفان على طاولة القرار يتعلق باليوم الذي يلي الاعتداء، وهو ثمن لاحق من شأنه أن يقلّص الفائدة والجدوى، ويرفع الثمن.
كيفما اتفق، يكون الردع مبنياً على القدرة الإيذائية التي يملكها طرف في وجه آخر. لكن، يشترط أن يمتلك أيضاً إرادة وقرار تفعيل هذه القدرة، وإلا سيتعامل معها الطرف الآخر، في حال التهديد بها، وكأنها قدرة محبوسة يتعذّر تفعيلها، ما يشكّل ثغرة في القدرة الردعية ويشجّع على تجاوزها.
رغم القدرة الإيذائية لإسرائيل إلا أن لدى حزب الله ما يكفي لمنع العدو من المبادرة


لكنّ المفارقة أن قياس الإيذاء، ربطاً بالقدرة لدى الجانبين، لم يعد مهماً. قدرة إسرائيل على الإيذاء لا تحتاج إلى دليل. فيما باتت قدرات حزب الله الإيذائية مشبعة، ومهما زادت لن تغير كثيراً في الرادعية. فأن تضرب منشأتين كهربائيتين أو ثلاثاً مقارنة غير ذات جدوى عملية، لأن الضرر في الحالتين كبير جداً إلى الحد الذي لا يعود معه لأي ضرر إضافي تأثير أكبر. والفروق تبعاً لذلك تكون محدودة لجهة القرار الابتدائي الذي يمنع أو يدفع إلى الاعتداء.
على طاولة القرار في تل أبيب، تُطرح الأثمان التي قد تتكبّدها في حال عمدت إلى شن اعتداءات على لبنان. لا يتعلق ذلك فقط برد الفعل على الفعل الاعتدائي، بل أيضاً بما يمكن أن يجرّ إليه الرد والرد على الرد وسلسلة الردود المتبادلة. وهذا ما يفسر انكفاء إسرائيل عن لبنان طوال السنوات الماضية، بعدما كان مستباحاً لاعتداءاتها، بسبب أو من دونه.
على هذه الخلفية، يمكن فهم ما يصدر من المواقف والتصريحات الإسرائيلية التي تبرّر الانكفاء عن الساحة اللبنانية. وقد برز في الفترة الأخيرة أكثر من دليل على الارتداع وعلى مفاعيله وتأثيراته. ففي المواجهة على الحد البحري، والتي حال الردع دون تحوّلها إلى مواجهة عسكرية صاخبة، كان الإسرائيلي أمام خيارين: إما التراجع أو تلقّي أثمان الحرب. هذا كان كافياً لإسكات كل المطالبين بالتصلب في التفاوض ودفع المحكمة العليا إلى رفض التماسات طالبت بإبطال اتفاق الحدود البحرية. فبين الحرب مع حزب الله، والتراجع نسبياً في الحدود البحرية، الأفضل للمصالح الإسرائيلية الابتعاد عن هكذا حرب.
آخر مؤشرات الارتداع برز بعد إطلاق عشرات الصواريخ في اتجاه شمال فلسطين المحتلة في السادس من نيسان الماضي. في حينه، كان المجلس الوزاري المصغَّر أمام المعضلة الآتية: يجب أن نرد في الساحة اللبنانية بما يردع مطلق الصواريخ عن تكرار فعلته، لكن مع عدم إثارة حزب الله وتحفيز اندفاعته للرد في المقابل. والمطلبان متناقضان بما يفسّر «سخافة» الرد الإسرائيلي.
في المقابل، تُطرح الأثمان على طاولة قرار حزب الله أيضاً. فقدرة إسرائيل على الإيذاء كبيرة، ما يدفع إلى موازنة القرارات والتعقّل في اتخاذها، وخصوصاً إذا كانت تتعلق بأفعال مبادر إليها وليست رداً على اعتداءات إسرائيلية. هذا «التعقل» الذي يقتصر عموماً على الموقف الدفاعي في مقابل العدو، جزء لا يتجزأ من فاعلية ردع حزب الله، وهو ما يرفع مستوى هذا الردع إلى حده الأقصى كونه ليس المبادر في العادة إلى خرق قواعد الاشتباك والتسبب بتصعيد، باعتبار أن قراراته دفاعية.
ما وصلت إليه قدرات حزب الله الإيذائية يمكّن من قول الآتي:
- لم تعد موازنة إسرائيل بين الجدوى والثمن لأي فعل من أفعالها العدائية في الساحة اللبنانية، مرتبطةً وحسب بالفعل الاعتدائي نفسه ورد الفعل المباشر عليه من حزب الله، بل بما يمكن - أو لا يمكن - أن يتسبب به من مواجهة شاملة. ثمن الفعل الابتدائي الإسرائيلي بات يقاس بالحرب وليس بالاعتداء المباشر.
- إدراك إسرائيل، وهذا ما يجب التوقف عنده طويلاً، أن نظرية «باشر الآن حرباً بثمن أقل كي لا تدفع أثماناً باهظة لاحقاً» لم تعد صالحة للتطبيق. فالثمن الذي يقدر أن تدفعه الآن نتيجة المبادرة إلى شن مواجهة أو حرب وقائية في الساحة اللبنانية كبير ومؤلم ويكفي بذاته لردع المبادرة، حتى ولو كان الثمن لاحقاً أكبر. فبين الثمن الكبير جداً جداً والثمن الكبير بامتياز، يكون انتظار ما يحمله المستقبل أفضل.
- إدراك اسرائيل، وهنا تكمن حكمة أداء حزب الله وموقفه الدفاعي، أنها إن لم تبادر إلى الاعتداء، فإن معقولية الوقوع في مواجهة شاملة، مستقبلاً، تبقى غير حتمية. بمعنى أن قرار الحرب واللاحرب بيدها هي عموماً، وليس في يد حزب الله صاحب الموقف الدفاعي. وهذا المطلب، يتساوق مع المطلب الذي سبقه.
- إدراك إسرائيل مسبقاً أن حرباً عدائية مبادراً إليها، لا تنهي تهديد حزب الله ولا تمنعه من إعادة ترميم قدراته لاحقاً في حال لحق بها إضرار نسبي نتيجة الحرب. وفقاً لذلك، ستعود إسرائيل إلى التموضع نفسه، وحزب الله إلى التموضع نفسه. والثمن الكبير الذي سيُدفع في الحرب، إسرائيلياً، لا يعني أن الفائدة الكبيرة ستتحقق، والأمر كذلك من جهة حزب الله.
معادلة الردع، رغم كل ما يقال عنها من أنها سيّالة وغير مادية ولا يمكن قياسها، إلا أنها معادلة مادية رياضية في الوقت نفسه، وهنا مفارقة نظرية الردع: امتلك قدرة إيذاء وإرادة تفعيل هذه القدرة، واربط تفعيلها بأفعال عدوك ونياته، فتحصل بطبيعة الحال على قدرة ردعية تمنع العدو من تفعيل قدرة إيذائه.
ولينكر من ينكر، ديماغوجياً. في المحصّلة، نعم، لدى حزب الله قدرة ردعية، وهي وحدها التي تفسر انكفاء العدو عن لبنان طوال السنوات الماضية، وهو أيضاً، وهنا المفارقة قياساً بموقف بعض مَن في لبنان، أن إسرائيل لا تنفي ولا تنكر أن حزب الله يردعها عن الساحة اللبنانية.
مع ذلك، قدرة الردع وحدها لا تمنع الحروب والمواجهات العسكرية، رغم صلابة الردع وقدرته الفعلية على فرملة المبادرات العدائية، إذ يمكن للردع أن يفقد فاعليته وتأثيراته، نتيجة «الأغلاط» التقديرية لمتغيرات قد يراها هذا الطرف أو ذاك مانعة للآخر من الرد أو تفعيل قدراته الإيذائية. وهو ما كادت إسرائيل توقع نفسها ولبنان فيه، بعد أن قدّرت أن المتغيرات في الساحة اللبنانية، كما في الإقليم، وفي أكثر من مرة، من شأنها أن تمنع حزب الله عن الرد على اعتداءاتها. وهو واقع، قد يشترك فيه الطرفان، أو طرف واحد وحسب، لكنه كافٍ بذاته أن يتسبب بحروب لا يريدها طرفاها ابتداءً. هذا الواقع، كذلك، يفسر الانكفاء عن الأفعال العدائية التكتيكية، خوفاً من التدحرج إلى الأفعال العدائية الكبيرة جداً. وهذا الواقع يفسر عمليات «جس النبض» الذي تعمد إليه إسرائيل بين الحين والآخر، وهو وجه آخر من أوجه الردع، الذي يعزّز انكفاءها عن لبنان.