ضجّت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وكذلك أروقة قصور العدل بالقرار الأخير لنقابة المحامين في بيروت، الذي ألزم المحامين بضرورة الاستحصال على إذن مسبق من النقيب حصراً قبل أي تصريح أو ظهور إعلامي، باعتبار أن هذا القرار ليس إلّا تأكيداً على ضرورة الالتزام بقانون تنظيم مهنة المحاماة بحسب نقيب المحامين ناضر كسبار. قبل الدخول في تداعيات هذا القرار، لا بدّ من التوضيح أن مهنة المحاماة في لبنان يحكمها قانون تنظيم المهنة الذي يصدر عن السلطة التشريعية وهي المخوَّلة إجراء أي تعديل عليه. وقد أعطى هذا القانون للنقابتَين في بيروت وطرابلس الحقّ في وضع نظام داخلي خاص بكل نقابة ينظّم العلاقة بينها وبين المحامين المنتسبين إليها.

(هيثم الموسوي)

صدر قانون تنظيم المهنة الأول بالقرار الرقم 655 في عام 1921، وأجريت عليه تعديلات عدة، إلى أن نُشر في الجريدة الرسمية مع كلّ تعديلاته في شباط من عام 1991*، ولم تجر عليه أي تعديلات منذ ذلك التاريخ رغم الحاجة الملحّة إليها (سنتطرق إلى هذا الموضوع بشكل مفصّل في مقال خاص حول قانون تنظيم مهنة المحاماة).
في عام 2014، أضيف على النظام الداخلي لنقابة المحامين في بيروت فصل (سادس) متعلق بعلاقة المحامي مع وسائل الإعلام، يتضمّن أربع موادّ وهي: 39 و40 و41 و42. تتناول هذه المواد بشكل واضح ضوابط استخدام المحامين لوسائل الإعلام والاتصالات في الدعاوى والقضايا العالقة أمام القضاء (حصراً)، إذ يُمنع المحامي من الحديث عنها أو مناقشتها إلّا بعد أخذ موافقة مسبقة من نقيب المحامين، وقد جاء النصّ واضحاً ولا لبس فيه لجهة تحديد سبب أخذ الموافقة في القضايا العالقة أمام القضاء من دون أي توسّع لجهة أي نشاط آخر للمحامي، سواءً كان نشاطاً حقوقياً أو سياسياً أو اجتماعياً.
كما حدّد قانون تنظيم مهنة المحاماة في الفصل الثاني منه واجبات المحامي لجهة التزامه في جميع أعماله بمبادئ الاستقامة والشرف والنزاهة ومنعه من القيام بالدعاية لنفسه بشكل مباشر أو من خلال وسطاء أو سماسرة. وقد أكّد النظام الداخلي لنقابة المحامين في بيروت في المادة 41 منه أنه: "يستحسن أن يُحيط المحامي نقيب المحامين علماً بأي وسيلة متاحة برغبته بالاشتراك في ندوة أو مقابلة ذات طابع قانوني عام تنظمها إحدى وسائل الإعلام، محدداً زمانها وموضوعها واسم وسيلة الإعلام. وفي جميع الأحوال على المحامي إبقاء الحوار ضمن الإطار العلمي والأكاديمي..". ونصّت المادة 42 بشكل واضح على أنه: "يُمنع على كل محامٍ أن يصدر أو يروّج أو ينشر أي مجلة أو مطبوعة أو نشرة بشكل مباشر أو غير مباشر ذات طابع نقابي أو تتعلق بنشاطات النقابة بأوجهها كافة، بواسطة وسيلة إعلامية أو إعلانية أو بواسطة شبكة الإنترنت والمواقع الإلكترونية، ويبقى لمجلس النقابة وحده الحق بإصدار هكذا مجلة أو مطبوعة أو نشرة باسم نقابة المحامين في بيروت".
المواد الواردة أعلاه ليست جديدة بل هي مواد تحكم عمل المحامين منذ نشأة النقابتَين وأنظمتهما الداخلية، فما هو الجديد اليوم؟

مشكلة مهنة حلّ المشكلات
يبدأ المحامون حياتهم المهنية بقسم اليمين الذي يمنحهم شرف الانتساب إلى نقابتهم والحقّ ببدء مزاولة المهنة، بعد اجتيازهم اختبار الدخول إلى النقابة بشقَّيه الشفهي والخطي. والمحاماة هي مهنة حلّ المشكلات والحماية منها على جميع الصعد، والمحامي هو الموجّه والمصوّب والمدقّق لكل المهن، وهو العين الساهرة على حماية الحقوق. وأن يكون الفرد محامياً في لبنان، أو في أي مكان في العالم، لا يعني فقط أن عليه القيام بالدور الوظيفي المطلوب من المحامي نيابة عن موكله، إنما أن يرى ما لا يراه الموكل وأن يتوقع ما قد يحدث وأن يؤمّن كل أنواع الحماية. ولأن حمل لواء الدفاع عن المجتمع وقضاياه ليس بالأمر السهل، ويتطلب صفات تتعدى شهادة الحقوق والانتساب إلى نقابة المحامين لتصل إلى بناء فكري وأدلجة تتبنى حمل ثقافة حقوق الإنسان والنضال من أجل مجتمع أفضل والدفاع عن القضايا الوطنية الكبرى. وعندما تُضاف هذه الصفات إلى حامل الشهادة والمنتسب إلى النقابة، تؤهله لأن يكون في مقدّمة كل تحرّك ونشاط وعمل على المستوى السياسي، وفي طليعة كل مواجهة مطلبية، فتُعرَف أسماؤهم من نضالاتهم على الأرض وفي صفوف الجماهير. وهذا كله لا تنطبق عليه ضوابط النظام الداخلي لنقابة المحامين لجهة منع المحامي من القيام بالدعاية لنفسه بشكل مباشر أو بالوساطة.

الرأي العام سلاح ذو حدّين
تطورت آليات التقاضي الاستراتيجي في زمن الـ«سوشل ميديا» (تحويل أي قضية إلى قضية رأي عام)، ولجأ العديد من المحامين إليها لدعم قضايا مرتبطة بالشأن العام، بعضهم عن معرفة ودراية بكل آلياتها، وآخرون ممّن ادّعوا المعرفة، حاولوا الظهور على حساب قضايا الناس في ملفات مرتبطة بالشأن العام أو بالإمكان تحويلها إلى قضايا رأي عام. ولأن الرأي العام بات السلاح الأقوى محلياً وعالمياً وهو سلاح ذو حدّين، فمن يمتلك أدواته ولا ينطلق في المواجهة من قاعدة العدل والإنصاف سيساهم في تحويل هذا الرأي إلى سلاح يفتك بالمجتمع ويشوّه الحقائق، ويؤدي إلى اختلال ميزان العدالة وحق كل الأطراف بالمحاكمة العادلة.
من أزماتنا البنيوية، نظام طائفي قائم على المحاصصة تغيب معه دولة القانون، يساهم في ظهور نماذج لناشطين وسياسيين ومن بينهم محامون استخدموا هذه الآليات لتشويه الحقائق وتمييع القضايا. وتحوّلت آليات المناصرة إلى سلاح جديد استخدمه البعض لمواجهة الخصوم ووضعهم تحت ضغط الرأي العام الذي ينجرّ بغالبيته للدفاع أو الهجوم من دون أي تحليل أو تدقيق. كما استُخدم هذا السلاح في حالات عدة من أجل مصالح شخصية لا علاقة للمجتمع فيها.

نقابة المحامين ومسؤولياتها تجاه المجتمع
معالجة التجاوزات، لخطورتها على عمل المحامين من جهة وعلى المجتمع من جهة أخرى، لا يمكن أن تكون بمزيد من الانتهاكات للحقوق والحريات باسم أمّ النقابات. كما لا تُعالج بتقويض دور المحامين الأساسي في الدفاع عن الحقوق، ولا بقرارات رقابية سابقة تتغيّر وفقاً لأهواء المنتصر في كل معركة انتخابية في نقابة المحامين كل سنتين، إنما تُواجَه من خلال قيام النقابة بدورها الأساسي والمحوري والقيادي في عملية الدفاع عن حقوق المجتمع وحمل لواء مناصرة كل قضايا الحقّ مجتمعة، من دون أي اصطفافات من أيّ نوع كانت، والوقوف إلى جانب المحامين الناشطين ودعمهم وتأمين جميع متطلباتهم وأدوات صمودهم في معركة الدفاع عن الحقوق والحريات.
بات الرأي العام السلاح الأقوى وهو سلاح ذو حدّين، فمن يمتلك أدواته قد يساهم في اختلال ميزان العدالة وحق كل الأطراف بالمحاكمة العادلة

وفي الوقت عينه، تستوجب الجرأة في المحاسبة والمساءلة للمدّعين والمحرّضين والمستغلين لصفتهم كمحامين بوسائل المحاسبة اللاحقة كافة، عندما يُثبت انتهاك المحامي لقانون تنظيم المهنة وللنظام الداخلي لنقابة المحامين، إذ يتعلق هذا الانتهاك بشكل محصور بآليات المحامي في تحويل قضية يعمل عليها إلى قضية رأي عام مطروحة للنظر فيها أمام المحاكم، ومدى التزامه بعدم التطرّق إلى سرية التحقيق من جهة، كما عدم نشر أي معلومات غير صحيحة أو مضخّمة عن القضية المطروحة والالتزام بالفصل السادس من النظام الداخلي لنقابة المحامين في بيروت. وهذا كله لا علاقة له بنشاط المحامي، سواءً كان نشاطاً سياسياً أو حقوقياً أو اجتماعياً، لأنه حاجة مجتمعية ونقابية ويصبّ في خدمة المجتمع، وواجب على نقابتَي المحامين في بيروت وطرابلس.

* صدرت سنة 1921 الشروط اللازمة لمزاولة مهنة المحاماة بقرار رقم 655 تاريخ 26/05/1921. أما قانون تنظيم مهنة المحاماة فصدر بتاريخ 23/05/1935 ثم في 13/12/1945، وبعد ذلك صدر قانون تنظيم مهنة المحاماة بموجب القانون الرقم 8 تاريخ 11/03/1970، وتالياً بالقانون الرقم 18 تاريخ 18/12/1978 إلى أن عُدّل هذا القانون في عام 1991. وبالتالي فإن القانون قد صدر عام 1970 وجرت التعديلات المذكورة عليه، وكان آخرها بتاريخ 21/9/1991.