في السنوات الأربع الماضية، تمكّنت قوى السلطة من قلب جدول أعمال إدارة الأزمة. المسار الذي كاد أن يطيح بالحكّام، انتهى بإنفاق أكثر من 22 مليار دولار على شراء الوقت. ولم ينتج من ذلك سوى الهروب من مواجهة واقع الحال. وقد بدّدت هذه الأموال لرفع الأسعار على مراحل. ومعها ارتفعت أسعار المواد والخدمات الأساسية من كهرباء ومياه وأدوية وطبابة وتعليم وغيرها.فجأة، انتهت «كذبة» الـ 1500 ليرة التي كانت تساوي دولاراً واحداً اعتباراً من مطلع 1997. فانكشف المستور، وبات سعر الدولار المحجوز لدى المصارف يزداد بوتيرة ثابتة من 3 آلاف ليرة إلى 8 آلاف ليرة ثم 15 ألفاً، ولاحقاً سيزيد. بالتدريج أيضاً، تبع ذلك تعديل في بنية احتساب الضرائب، لكن التعديلات التي طالت الأجور كانت بوتيرة أبطأ وبنسب أقلّ بكثير من نسبة التآكل في القدرة الشرائية. أرباح التجّار وحدها كانت تسابق انهيار الليرة... هذا هو المسار الذي قاده الحاكم بأمره، رياض سلامة، نيابة عن السلطة وباسمها. وكان قائداً لهذا المسار منذ اليوم الأول لتوليه منصبه، وبناءً على هذه السيرة، جدد له خمس مرات تنتهي آخر ولاية فيها مطلع تموز المقبل، حيث بات مصيره محكوماً بالخروج بعدما أصبح مشتبهاً فيه، محلياً وخارجياً، بالسطو على المال العام والخاص، وباتت أسماء البدلاء مطروحة على الطاولة. منهم من رفض مثل سمير عساف، ومنهم من يتمنّع مثل جهاد أزعور وآخرين، فيما وافق كميل أبو سليمان على «المهمّة الانتحارية»، كما يسمّيها. وبمعزل عن توصيف كل منهم والمنظور الذي يرى منه موقع الحاكمية، إلا أنهم جميعاً محشورون داخل أسوار النظام المرسوم. ولا يوجد في كل نادي المرشحين للحاكمية من يقدّم فكرة ثورية لتعديل جذري في بنية «النظام»، بل يرون أن مهمّتهم تركّز على إعادة تأهيل هذا «النظام»، أو ما يمكن تسميته نموذج الاقتصاد السياسي الذي حدّد شكل الاقتصاد وعلاقة قوى العمل برأس المال وعلاقات لبنان مع الخارج.
هذا النموذج أتى في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، وهو امتداد لنسخة سابقة منه قبل الحرب، مضمونها سبق أن سرده الأستاذ الجامعي هشام صفي الدين في كتابه «دولة المصارف» الذي يستند إلى وثائق من الأرشيف الأميركي، ووثق الائتلاف بين قوى الحكم وبين المصارف وحاكم مصرف لبنان الذي يستحوذ على حماية «قمعية». وهذا الائتلاف تأطّر في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية ضمن تحالف وظيفي يكرّس إدارة الثروة للحاكم الذي وزّعها وفق تبادل المنافع والمصالح بين الشركاء، أي بين المصارف وبين قوى الحكم، سواء البيوت التقليدية أو تلك المستجدّة. سلامة، أو حاكم الطائف، صمّم نموذجاً يقوم على استقطاب الثروة من الخارج، ويستهلكها في الداخل بلا أي اعتبارات اقتصادية واجتماعية. وأبرز تعبير عن تورّم النموذج أن الثروة المستقطبة والمسجّلة في قيود المصارف صارت تزيد على ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي، وأن خدمة هذه الثروة تتطلب نموّاً ثابتاً في الودائع، أي نموّاً ثابتاً في استقطاب الثروة وإعادة توزيعها محلياً، أو بتعبير أوضح السطو عليها.
الحديث يطول عن بنية هذا النظام وقنواته وآلياته ونتائجه، وعن الامتيازات التي منحها للنافذين في مستويات مختلفة، إضافة الى النهب الذي أتاحه لفئة قليلة من الحكّام والمصرفيين والتجّار، وسوى ذلك، ما أدّى إلى مراكمة الثروة بأيدي القلّة وتحويل المجتمع اللبناني إلى مستهلك نهم موهوم بدعم الليرة على سعر ثابت، ويرغب دائماً بالهجرة، ليس لعلمه بأن اغترابه يسهم في تعزيز بنية تمويل النظام، وإنما لعدم وجود بديل محلي.
لا يوجد في كل نادي المرشحين للحاكمية من يقدّم فكرة ثورية لتعديل جذري في بنية «النظام»


أدى تركّز الثروة والنفوذ بيد أفراد الائتلاف وأسرهم، الى نتائج متكرّرة على مدى العقود. فلم يتم تعويم للقطاعات الإنتاجية مثل الصناعة والزراعة، بينما فرض أن تكون المصارف في موقع متقدم. وهو ما يفرض استراتيجية استقطاب الأموال بشكل دائم. يكاد لا يخلو مصرف من سمسار أو عضو مجلس إدارة أو مدير ممن قاموا برحلات إلى إفريقيا وحملوا الأموال نقداً بالشنط وأودعوها في خزائنهم، ثم انتقلت إلى مصرف لبنان أو تحوّلت بسحر ساحر إلى فوائد تدفعها الدولة من دون أن تعرف، لأن مصرف لبنان يخفي أثره. عمليات الدمج بين المصارف، والقروض المدعومة كما التفاوض على أسعار الفائدة، وإصدارات اليوروبوندز، وصولاً الى الاستدانة بالعملات الأجنبية... كلها أمور قام بها الائتلاف بإتقان شديد حتى يصبح التمييز بين أركان الائتلاف من قوى سياسية ومصارف وتجار وإعلام ومن يسمّون أنفسهم رواد الطبقة الوسطى من مهندسين ومحامين وأطباء وسواهم. كل هؤلاء أدّوا في واقع الأمر عملاً واحداً.
انطلاقاً من هنا، توجد صعوبة في الاقتناع بأن من سيقوم بتعيين الحاكم سيوافق على أن يكون جدول أعماله مختلفاً جذرياً. فالجدول المطروح بالتزامن مع انطلاق حراك 17 تشرين انتهى وقضي الأمر، وانتقل الجميع ليناقش في جدول أعمال مختلف عنوانه «ترميم النظام أو إعادة تأهيله». ومحاور النظام المجدّد له أو المرمّم بسيطة، من أبرزها الودائع: هل سيتم دفعها لمستحقيها؟ صارت كل عبارة سياسية تقال مصحوبة بعبارة ردّ الودائع! وتجنّدت أحزاب سياسية لاستخدام كلمة ودائع وكسب عطف الضحايا. وبقي السؤال الأول الذي يواجه الحاكم الجديد، بمعزل عن اسمه هو: هل بإمكانه ردّ الودائع المنهوبة؟
أما المحور الثاني، فيتعلق بالعلاقة مع صندوق النقد الدولي. إذ لا يقدر أي حاكم جديد على منع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي؟ ويتنافس هؤلاء على تنفيذ أجندة صندوق النقد باعتبارها أداة لا يمكن أن تستخدم ضدّ «النظام» ورجاله، إنما هي قادرة على تحقيق خرق ما.
أما المحور الثالث فيتعلق باستقطاب الأموال واستعمالها في الداخل، إذ إن صندوق النقد سيمنح لبنان الأموال وفق شروط قاسية وحادّة جداً على المجتمع والاقتصاد، لكن الأموال بالعملة الأجنبية يمكن تصنيفها إلى ثلاث:
- فوائض التجارة بين لبنان والخارج، وهي ليست متوافرة في لبنان، بل على العكس هي عجوزات تترتّب تغطيتها.
- القروض على أنواعها، سواء كانت على شكل ودائع أتت إلى المصارف، أو قروضاً وقّعتها الحكومة وأبرمها مجلس النواب مع صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو المنظمات العربية والدولية الأخرى.
- المساعدات والهبات والهدايا وسائر التمويل المجاني الذي يأتي مرّة واحدة أو يتكرّر دائماً ضمن وجهة واحدة (التمويل الحزبي أو من دولة لجهة واحدة)، والأموال الآتية لمساعدة النازحين السوريين والتي تزيد عن مليار دولار سنوياً.
أيّ حاكم لمصرف لبنان سيكون مقيّداً بهذه القنوات الثلاث، وكل منها يؤدي إلى نتائج مهمّة. فتقييد الاستيراد يتطلب وجود قانون «كابيتال كونترول» بصورة مختلفة عن الذي تقترحه قوى السلطة الآن. والقروض الدولية تتطلب قراراً سياسياً لإبرامها في مجلس النواب وهو أمر لم تقدم عليه السلطة منذ بدء التفاوض مع الصندوق لغاية اليوم. أما استقبال الودائع الجديدة فيحتاج إلى خلق ثقة بالقطاع المصرفي قد لا تتحقق على مدى السنوات العشر المقبلة، رغم كل ما سيجري من عمليات دمج ورسملة. أما الهبات والمساعدات وسائر التمويل المتكرّر أو الموجّه، فله شروط، ويصعب التحكّم فيه ككتلة واحدة خارج إطار التعامل مع الخارج (المانح) والداخل (المتلقي)، أي خارج أسوار السلطة القائمة.
لهذا، يكتسب تعيين الحاكم أهمية استثنائية اليوم بمقدار ما يروّج له، فالحاكم الحالي ابن النظام ورأس القيادة فيه، وقد بدّد 22 مليار دولار ونفخ في التضخم ليتراكم إلى 25 ضعفاً، وهو قال كلمته وسيمشي: «خدمت النظام بأشفار عيوني وأعلم أن الاتفاق مع صندوق النقد سيكون مذلّاً». الآخرون يردّدون في مجالسهم: «سنوقّع الاتفاق مع الصندوق، ولن نكون أصدقاء السياسيين بل سنقوم بتأهيل النظام». بهذه الأجندات التي تتنافس بمدى انسجامها أو تنافرها مع السياسيين، هم أبناء جلدة واحدة، وليس هناك من يقترح إجراء تغيير جوهري في بنية النظام.