لا شكّ أنّ نادي المحامين الخاصّ المسمّى نقابة زوراً هو أكثر النوادي رجعيةً في جمهورية لبنان الكبير. لا داعي للخوض في تفاصيل كيفية تأسيس هذا النادي، أو تشريح المسار «التاريخي» لدخوله، من مدرسة الجمهور إلى جامعة القدّيس يوسف إلى النادي القانوني. لا عيب في يمينيّة أي نادٍ يفتخر بيمينيّته. لكن نادي محامي بيروت لا يحتكر مهنة المحاماة في لبنان، إذ أُوجد قبل اثنين وعشرين عاماً من الاستقلال المزعوم للجمهورية اللبنانية نادٍ آخر في طرابلس والشمال، له الصلاحيات نفسها، وإن بنفوذٍ جغرافيٍّ أصغر. وبعد الحرب الأهلية، كان هناك تهديدٌ بتأسيس نادٍ جنوبيٍّ يأكل من حصة النادي المركزي في بيروت، فانتهى التهديد بتسوية تمنح الأستاذ المهدِّد كلية حقوق في جامعة زوجته وابنها وحصة في النقابة المركزية. كل ما ورد حتى الآن وقائع تاريخية، فما الذي يحصل حتى باتت القضايا الداخلية لهذا النادي البورجوازي العتيق قضية رأي عام، كما يدّعي البعض؟قبل الدخول في القضايا الداخلية للنادي النقابي، دعونا نحدّد الاحتياجات القانونية للبنان اليوم. بطبيعة الحال، هناك اختلاف طبقي لهذه الاحتياجات، فالصراع اليوم هو على توزيع خسائر طبقة المصرفيين الحمقاء الذين أهدروا أموالهم وأموال مودعيهم في استثمارات فاشلة، بينهم وبين أغلبية الشعب الذي لم يكن له في النظام المصرفي أي حصة. ما ينتظر لبنان بسبب فشل مصرفيّيه، المقصود أو الناجم عن غباء، هو حرب قانونية شنعاء ستسعى إلى استملاك كل ما له قيمة في لبنان بنظر رأس المال المعولم بأبخس الأثمان. هنا لا بدّ من هدم أسطورة فرادة لبنان، إذ إن هذه الإجراءات حصلت في أكثر من دولة عاندت الإمبريالية قبل أن يحين دورنا هنا. مفهوم الحرب القانونية أو «Lawfare» طُبِّق ويُطَبَّق حول العالم لتقويض أعمال وثوار يهدّدون من هم أعلى منهم شأناً. في جنوب أميركا الثائرة على سبيل المثال، استخدمت الحرب القانونية لاستهداف رئيس ورئيسة البرازيل، الرفيق لولا دا سيلفا والرفيقة ديلما روسيف، كما تستخدم اليوم ضد الأرجنتين ورئيستها السابقة الرفيقة كريستينا كيرشنر. محلياً، قانون قيصر ولائحة «أوفاك» الأميركيان أبرز أمثلة عن الحرب القانونية. لا القانون ولا اللائحة يمنعان الرأسماليين من الاستمرار في القيام بأعمالهم، إذ يمكن لهؤلاء تجييش كتيبة من المحامين للالتفاف على القوانين، لكن ماذا عن تأثير الحرب القانونية على الشعوب، وما هو دور المحامين في ذلك؟
هنا تبدأ فكرة إرساء القوانين، وفتح الباب أمام تلاعب المحامين فيها. أولاً، تشريع القوانين هو مسؤولية المجلس التشريعي المنتخب من الشعب. في الحالة اللبنانية اليوم, هذه الحالة المشلولة بسبب الانقسام النصفي الذي أفرزته الانتخابات النيابية الأخيرة. فما العمل في غياب أكثرية دستورية قابلة لتغيير قواعد اللعبة؟ زيادة الإنجاب لا نتائج قريبة الأمد له، لأن أولاد الأعوام الثلاثة لا صوت لهم في أي ديموقراطية. ولذلك، كل المتسرعين للتغيير يبحثون عن وسائل أخرى لتحقيقه. التذاكي على القوانين والالتفاف من أهمّ سمات المحامي الشاطر، لكن في النهاية عليه الالتزام بنصّ القانون الذي لا يحقّ للمحامي التلاعب به، وهو ليس بشاعرٍ. في غياب المحاكم الثورية ومكوّنات التغيير الثوري على مستوى القضاء والعدل، ما يتبقّى لنا هو ما يسمّى إصلاحاً. وهنا قوانين النادي الذي يحكم هذا الفضاء تطغى على طموحات الأفراد الذين يودّون الانقلاب عليه.
نادي المحامين في لبنان منح المنتسبين إليه الكثير من الامتيازات منذ أن وجد، وهذه الامتيازات غالباً ما تفرض على المنتسبين إليه الالتزام بقواعد اللعبة المكتوبة، وغير المكتوبة لكن المكرّسة عبر الأجيال. بالعودة إلى قضية الصراع بين نزار صاغية ونقيبه، أو رقيبه لا فرق، ناضر كسبار، تُطرح فكرة حرية التعبير على أنها القضية المحورية في هذا الإشكال، وهذا أكثر ما هو مضحك في الموضوع. حريّة التعبير حجّةٌ باطلة، لأن الصراع أو الخلاف في مكانٍ آخر. ولأن الفضاءات التعبيرية دليل على أن كل من يبغي التعبير في لبنان لديه مساحته من أكبر «الصغاة» العشائريين إلى أصغرهم.
طبعاً، القضية ليست قضية حرّية تعبير. نادي المحاماة البيروتي خدم تاريخياً رأس المال القديم في هذه الجمهورية منذ تأسيسها. وقابلت هذه الخدمة امتيازات للنادي خوّلته نخبوية ما لأعضائه. ثمن هذه الامتيازات كان دوماً الالتزام بالقواعد، أو القوانين، التي تخدم رأس المال القديم هذا. ما حدث مع نزار صاغية هو أنه وجد مصدر تمويل لمهنته من خارج إطار رأس المال اليميني الرجعي القديم. وجد نبعَ مالٍ مستجدٍّ حقوقياتي هوياتي في رأس المال اليميني المعولم.
يحتاج لبنان اليوم إلى جيش من المحامين لمواجهة الجولة التالية من جولات تفقير الشعب. لا شك أن الصراع على نقابة المحاماة مفصليٌّ في هذا الصراع. لكن في الحرب القانونية المقبلة، لا يعني الشعب الصراع القائم بين النادي والعشيرة. في هذا الصراع اليميني - اليميني، لا يسعنا إلّا أن نتذكّر كلمات الرائعة جورجيت صايغ: «طير وفرقع يا بوشار».