للأوزاعي، المنطقة الساحلية، سيرة مختلفة عن تلك التي نعرفها، حيث يلتحم البؤس بواقع الناس. هي سيرة الإمام الأوزاعي الذي تحمل المنطقة اسمه ربطاً بالمسجد الذي تحتضنه. لكنّك عندما تمشي في محلة الأوزاعي، قريباً من الجامع، وتطرح السؤال عمّا يعرفه المارّة عن الإمام الذي يلفظون اسمه عشرات المرات يومياً، تجد أن الغالبية لا تملك أدنى فكرة عمّن يكون.
من هو الإمام الأوزاعي؟
تأتي الإجابة مصحوبة بضحكة تفيد بالجهل: هو ببساطة الإمام الأوزاعي. وبالنسبة إلى البعض، فالإمام الأوزاعي هو الجامع نفسه! وأحياناً، يحرّض السؤال البعض على التفكير للمرة الأولى ربما، بما لم يفكروا به يوماً. أما الردود، التي تُعدّ إجابات، فجاءت عامة وأحياناً متضاربة؛ «هو فقيه ديني»، «وليّ من الأولياء الصالحين»، «متصوّف»، «إمام من أئمة المذهب السني»، «شيخ سلفي»، «الإمام الذي دافع عن مسيحيي لبنان»، «شفيع له كرامة»، إلخ.

سرّ في «حنتوس»
الإمام الأوزاعي، أو الإمام أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد، هو رجل جليل، قدم قبل نحو 1350 سنة إلى «حنتوس» المعروفة اليوم بمنطقة الأوزاعي. كان يسعى إلى مكان يخلو به في آخر أيامه ويتفرّغ للعبادة والعلم. كانت القرية الصغيرة مؤلّفة من بضعة بيوت متفرقة، وتُعدّ ضاحية من الضواحي البعيدة عن بيروت في تلك الأزمنة البعيدة. رأى في الطريق امرأة ذات بشرة سوداء، فسألها عن مكان العمارة، فأشارت إلى مقبرة. تعجّب وقال: سألتك عن العمارة. فأجابته: تريد الخراب؟ وأشارت إلى حيث مكان وجود الناس. فسّرت له دلالتها «رأيت كلّ من تحت (حيث الناس) يأتي إلى هنا (المقبرة)، وما رأيت واحداً ممن هنا ذهب إليهم. فأين العمارة إذاً؟». فقال: «علمتُ أن في هذه المدينة سراً». وحطّ رحاله فيها. استقبله أهل المنطقة على أساس أنه معلّم للدين، وإمام لهم في مصلى حنتوس. والرجل بعلمه وفضله وسيرته منح المنطقة والجامع اسمه، بعدما تحوّل المكان الذي أقام فيه قبلة للجميع من الحكام والعلماء وعامة الناس.

«شفيع النصارى»
يُعدّ الإمام الأوزاعي (707- 773) من أئمة المسلمين الكبار. «كان إمام أهل الشَّام والمغرب والأندلُس ومذهبهم الوحيد للفتوى والقضاء لنحو 200 سنة. فقد كان مجتهداً، ومذهبه بقيمة المذاهب الأربعة المشهورة. عاش قبل الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي وغيرهما من أئمة المذاهب، الذين إذا ما أرادوا دعم آرائهم استشهدوا بأقواله» يقول المدير السابق للأوقاف الإسلامية، وإمام مسجد الأوزاعي الشيخ هشام خليفة.
ويذكر خليفة أن أصل عائلة الإمام الأوزاعي من منطقة بعلبك، «لكنه غادرها مع عائلته عندما كان صغيراً، وعاش في منطقة باب الفراديس شرق دمشق، ولما توفي والده عادت به أمه ثانية إلى بعلبك. وبعدما صار شاباً بدأ يتنقل طلباً للعلم، من مدينة إلى أخرى، فعاش في دمشق وبغداد والبصرة والمدينة المنوّرة ومصر. وكان كلّ مكان للعلم وجهته».
كان الرئيس شارل الحلو يرسل النذور والزيت والهدايا للإنفاق على المقام


شهد في حياته نهاية أيام العهد الأموي وبداية الحكم العباسي، وما حصل من نزاعات. وكان سبب خياره التوجه إلى بيروت، أن يجد مكاناً ينأى به عن جو الحكم والحكام، رغم أنه كان مقدّراً عندهم ويقبلون بشفاعته. ويذكر خليفة أنّ ثمة رواية مشهورة ومتداولة عن الإمام الأوزاعي «وهي أنه كان سبباً في عدم إجلاء المسيحيين من لبنان. فقد ثارت مجموعة من المسيحيين على الحكم الإسلامي في العهد العباسي. فأخذ الحاكم أبو جعفر المنصور القرار بإجلائهم. عندما علم الإمام الأوزاعي رفض أن تأخذ العامة بجريرة الخاصة، وأرسل له برقية عاجلة بدأها بالآية الكريمة: «ولا تزر وازرة وزر أخرى»، وطلب منه أن يعفو عنهم ولا يعاقب إلا من ثبت عليه الخطأ وقد نزل الحاكم عند رأيه».
يقول خليفة إن المسيحيين في لبنان يعلمون ذلك «وقد كان رئيس الجمهورية السابق الرئيس شارل الحلو يرسل النذور والزيت والهدايا المادية للإنفاق على المقام». لذا يرى الشيخ خليفة أن مسجد الإمام الأوزاعي هو «صورة للبنان الذي نريد، وهي تختلف عن لبنان الواقعي. فهنا يحدث التقارب، حيث يأتي السُّنة والشيعة، كما يزور المقام بعض المسيحيين والرهبان». كان هذا قبل 15 عاماً. اليوم «اختلف الحال، إذ أثرت الظروف السياسية سلباً على الأجواء».
نسأل الشيخ عن سبب عدم انتشار مذهب الأوزاعي، وعدم وجود أتباع له؟ فيردّه إلى أمرين «الأول، الشدّة التي تميّز بها مذهبه في بعض الأمور وخصوصاً في أمور العبادات، فكان على المثال يعتبر أن عدم الخشوع في الصلاة مبطل لها. والثاني اندثار وضياع الكثير من المراجع والكتب التي حملت فكره ومذهبه. وما بقي منها هو الأقوال وبعض الكتب التي تناقلها أئمة المذاهب الأخرى معتمدين على أقواله لدعم مذاهبهم. وبعض الباحثين بحثوا في مجموع المراجع وألّفوا من ذلك مسند الإمام الأوزاعي وفقهياته».



جامع أثري عمره 1250 سنة

(مروان بو حيدر)

في الطريق السريع أول منطقة الأوزاعي، على اليسار لجهة البحر، يقوم جامع الإمام الأوزاعي. تبدو من بعيد للرائي المئذنتان. إحداهما حديثة، بُنيت مع توسيع المسجد سنة 1960، والثانية أقصر بنيت عام 1935.
ينقسم الجامع إلى قسمين. قسم أثري، يعود إلى الحقبة العباسية، عمره يقارب الـ1250 سنة، وهو عبارة عن مسجد صغير من الصخر والحجر الرملي لا تتجاوز مساحته الـ5 أمتار مربعة. كان موجوداً قبل مقدم الإمام الأوزاعي إلى حنتوس، وهو يحوي قبر الإمام وقد سُيّج بقفص أخضر.
على يمين المسجد الصغير، مرتفع صغير كاشف للبحر، يُسمى عرزال. قديماً، كان منفصلاً عن المسجد، وكان الإمام الأوزاعي يقيمُ فيه بنية الرباط، و«الرباط أن يمكث المسلم في مكان، مظنّة أن يستغله العدو ويدخل منه إلى بلاد المسلمين» كما يشرح المدير السابق للأوقاف الإسلامية، وإمام مسجد الأوزاعي الشيخ هشام خليفة. وقد «ظلّ المسجد على حاله هذه طويلاً، وعمد الحكام الذين عرفوا قيمة الإمام ومكانته إلى إضافة بعض التوسيعات».
منذ أكثر من 10 سنوات رُمّم المسجد الصغير، وأضيفت إليه موادّ خاصة للحفاظ عليه من التآكل، وخاصة أنه قريب من البحر. أما المسجد الحديث وهو امتداد للمسجد الصغير، فقد «قرّرت لجنة يرأسها الدكتور محمد خالد بناءه عام 1960 ليستوعب أعداد المصلين والزوّار». تُصلى في الأخير الصلوات الخمس وصلاة الجمعة. أما المقام فتُصلى فيه صلاتا الظهر والعصر وبعدهما يغلق باعتباره مزاراً.
ويُعدّ المسؤول عن هذا المقام إدارياً ودينياً وروحياً، دار الفتوى والأوقاف الإسلامية، لكنه تابع أيضاً لمديرية الآثار كواحد من الآثار المهمة في لبنان، منذ إدخاله في لائحة الجرد العام للأبنية الأثرية في عام 1962.