استقبلت باريس رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، في زيارة سبقتها وتبعتها لقاءات مع عدد من المرشحين الرئاسيين، وقيادات سياسية. لكن، بحكم موقعه وترشيح الثنائي الشيعي له، أرادت باريس من فرنجية أجوبة عن ضمانات وأسئلة، في استعاضة عن تعثر مبادراتها المتتالية حيال الملف الرئاسي وحيال تسويق اسمه. كانت قطر أكثر وضوحاً بعدم طلب ضمانات من القيادات السياسية تبعاً لخبرتها مع قوى إقليمية سياسية وأمنية فاعلة في أقنية القرارات الأمنية والعسكرية، وكيف تُتخذ ومن هو صاحب القرار فيها. لكن باريس ارتأت طلب ضمانات في ملفين حساسين: الاستراتيجية الدفاعية والنازحين السوريين، وهما الملفان الأكثر تقاطعاً مع سوريا وإيران. ولم يكد يبرد حبر الأجوبة حتى جاءت الصواريخ التي أطلقت من الجنوب لتخرق الهدوء الذي طبع المرحلة التي تلت توقيع الترسيم البحري.خلق الحدث بذلك زاوية جديدة في وضع لبنان عموماً وفي الملف الرئاسي، سينسحب حكماً على وساطة باريس في شقها المتقاطع مع دور حزب الله. إذ بدت باريس الطرف الأكثر إحراجاً، فأي التزامات أمنية وأجوبة تنقلها إلى السعودية، وأي تعهدات يمكن أن تعطى بمعزل عن الحدث الأمني ومندرجاته السياسية محلياً وإقليمياً.
والتطور الذي جاء بعد الاتفاق السعودي - الإيراني، جعل العيون شاخصة لمعرفة خلفياته تبعاً للموقف الإيراني ودلالات تحريك الساحات دفعة واحدة. وهو شكّل للدول التي تعمل لبلورة الاستحقاق الرئاسي كمقدمة للبحث مطولاً في مستقبل الوضع اللبناني، مناسبة مفصلية تعيد وضع حزب الله وحلفائه، على خط التقاطعات مع الاحتمالات المفتوحة لما جرى أمنياً. وباريس التي قدمت نفسها على أنها المرجعية الصالحة في نقل رسائل طمأنة في شأن ملفات أمنية وسياسية، تقف عاجزة أمام مشهد تتداخل فيه العوامل الإقليمية، في ملف هي الحلقة الأضعف فيه. ويصعب عليها تجاوز ما حصل جنوباً في مرحلة تصعيد، يمكن في لحظة أن تتفلت من محاولات دولية، لا قدرة لها على مجاراتها لكبت الانفجار الكبير. فدورها في ملف الغاز محدود بإطاره الضيق، ولم يجعل منها قوة دولية على تقاطع مع إسرائيل التي لا ترحب بتحولاتها مع إيران وحزب الله.
ما جرى وضع الدول العربية، وفي مقدمها السعودية، أمام اختبار التعامل مع احتمالات رد إسرائيلي واسع النطاق على لبنان فلا تعود تنفع معه أي أجوبة طمأنة ومحاولات تطمين بتعهدات رئاسية في شأن العلاقة مع حزب الله أو مع سوريا أو إيران. وهذا من شأنه كذلك أن يفتح أمام محاوري السعودية الباب نفسه، فكيف يمكن طمأنتها حيال أي تصعيد تداخلت فيه أطراف فلسطينية وإقليمية، وقت لا تزال تتعاطى مع اتفاقها مع إيران، على قاعدة أن كل ساحة منفصلة عن الأخرى. وهذا من شأنه أن يزيد شكوكها في شأن احتمالات الحل النهائي في لبنان، ويعزز لديها عجز معظم القوى على مواجهة امتلاك حلفاء إيران قرار الحرب والسلم.
باريس تقف عاجزة أمام مشهد تتداخل فيه العوامل الإقليمية


في المقابل، وفيما يضع الأمين العام لحزب الله اللمسات الأخيرة على خطابه المرتقب ربطاً بأحداث الجنوب في يوم القدس العالمي، لم تجد قوى المعارضة، ومعها التيار الوطني الحر، منفذاً للهرب من مواجهة صواريخ الجنوب وأسبابها الحقيقية، سوى بالانشغال بالانتخابات البلدية. فقد مرّ حدث إطلاق الصواريخ وكأنه لم يكن، وجاءت ردود الفعل المحلية أقل من المتوقع، ولم يعكس حجم التعاطي مع متغير بهذا الحجم ودلالاته، خطورة الحدث كما جرى التعبير عنها إقليمياً ودولياً. وفي هذه اللحظات بالذات انصرفت القوى السياسية المعارضة، ومعها التيار الوطني الحر، عن التطور الإقليمي، إلى معالجة إشكالات العائلات والمحازبين في القرى والبلدات لتسجيل انتصارات بلدية، من دون أن تظهر أي حركة مضادة أو عالية السقف تجاه ما حصل. وفعلياً لا يمكن استيعاب حجم انخراط هذه القوى، المسيحية في غالبيتها، في الانتخابات البلدية إلى الحد الذي حفلت فيه الأيام الماضية في موازاة إطلاق الصواريخ بحملات اتصالات ولقاءات تمهيداً للانتخابات التي قد ترجأ. وعلى رغم أنه لا يمكن فهم رد فعل التيار الوطني إلا بوصفه حليفاً لحزب الله على رغم خلافاته الأخيرة معه، تصرفت قوى المعارضة في مجملها وكأنها في إطار منفصل عن الواقع الحقيقي الذي يعيشه لبنان. وهذا الانفصال غير المعبر عنه بواقعية تجاه حدث خطر بكافة معاييره، يشكل نموذجاً عن مقاربة التداعيات المستقبلية لهذا الحدث، أو لتطور آخر ناجم عن التحولات في المنطقة. والانخراط الفاقع في الانتخابات البلدية، والعجز الفاضح عن التحرك حتى لفهم حاجة اللاعبين الإقليميين مهما اختلفت درجاتهم في تحريك ساحة الجنوب لأي هدف كان، يسحب من أيدي هذه القوى كل أوراق اعتقدت أنها حققت تقدماً فيها في الأسابيع الأخيرة. فما حصل ليس فوزاً في توقيت صيفي، بل عجز كامل عن قراءة هذا الحدث والتعامل معه كما يستحق.