ما خلا إيران، كشفت الدول الخمس التي تعنى بالشأن اللبناني أوراقها في الملف الرئاسي والحكومي. لكن ذلك لا يعني أن الملف الرئاسي أصبح جاهزاً، وأن الانتخابات ستحصل، وأن تسوية ما في طريقها إلى الظهور جدياً. هناك محصّلة أولية تقولها أوساط مطلعة على جهود الدول الخمس، مفادها أنه لا يمكن البناء على معطيات جديدة ما دام الاتفاق النووي لم يتحرك إلى الأمام، وما دامت الدول الأوروبية لم تدخل بعد على خط التفاوض كما ترغب طهران، لأن على أساسه يمكن الكلام عن تحول قد يشمل لبنان. واستطراداً، قالت باريس كلمتها في ما يخص المقايضة المطروحة، وطرحت الدول الأربع الأخرى ما تريده في شأن تسوية خارج الاصطفافات، فيما لم تقل إيران بعد ما تريده. ومع بلورة المواقف الخارجية، هناك إضافات على مواقف الدول الأربع، تظهر تباعاً في قراءة الوضع اللبناني، وما يمكن أن ينجز للحل فيه. ركيزة هذه القراءة تأكيد سعودي أن الرياض لا تزال عند المربع الأول، أي أن الوضع اللبناني لا يعنيها في الشكل الذي ترغب باريس أن تظهره. وعدم الاهتمام ينسحب على أن الخيار متروك لمن يريد استحداث تسوية ناقصة رئاسية، لا تتحمل الرياض تبعاتها. فإذا كانت باريس مصرة على إجراء مقايضة فلتقم بها، مع من تتمكن من إقناعهم في لبنان، للحصول على الأصوات اللازمة لانتخاب من تريده، ولتشكل حكومة وفق خريطة طريقها. أبعد من ذلك، لا يمكن أن يطلب من السعودية أي مساهمة في عملية إصلاح مالية واقتصادية. أما في ما خص الاتفاق مع إيران، فله موجبات تتعلق بساحات أخرى، يتم التعامل مع كل منها على حدة. لا تريد السعودية التفريط بساحة ما وتقديم تنازلات على حساب ساحة أخرى. فالاتفاق له شروطه وحيثياته، وما ينسحب على لبنان قد لا ينسحب على أي دولة أخرى.
(هيثم الموسوي)

وفقاً لهذه المعادلة، ما تقوله هذه الأوساط إن لبنان سينتقل من فراغ إلى آخر، إذا لم تتمكن الدول الخارجية الأربع المعنية من صياغة مشروع حل متكامل ترضى به الأطراف المتورطة في لبنان جميعها. أما الترجمة المحلية عملانياً، فتتلخص في أن المراوحة المحلية لم تعد تتحمل تبعات السلبيات التي ستظهر تباعاً على كل مستويات الحكم. إذ لا يجب أن تقاس مرحلة الفراغ اليوم بمرحلة الفراغ التي سبقت انتخاب العماد ميشال عون، لأن الظروف المحلية والخارجية مختلفة تماماً، وبعض الهيكل اللبناني كان لا يزال قائماً حينها. أما اليوم فالأمر مناقض تماماً لتلك المرحلة على كافة المستويات الاجتماعية والمالية والسياسية.
ثمة مقارنة بسيطة، فسقوط مرشح الثنائي الشيعي رئيس تيار المردة سليمان فرنجية في معادلة الخارج، ويقين حلفائه أنه لا يمكن بعد المواقف المعلنة أقله لمعارضيه، مسيحيين وسنة ودروزاً، تأمين 65 صوتاً، لا يعني إمكان إنجاح مرشح آخر. فالمعارضة هي الأخرى سلمت جدلاً بأنها لا تستطيع إيصال مرشحها، وأنها ليست قادرة على إيصال مرشح آخر وفق معادلة مسيحية، بعد تعذر الاتفاق بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية. فالتيار المستعد لأي حوار مع القوات يشترط استبعاد قائد الجيش العماد جوزيف عون، والقوات لا يمكن أن تؤيده في هذه النقطة، لأنها أبلغت من يعنيهم الأمر أنها تسير بعون في ظل أي تسوية تحظى بتغطية خارجية. هذا بعض الحوارات الدائرة. كذلك فإن القوى المعارضة قد تكون أمام خيارات أوسع وأشمل من مجرد اختيار اسم للتوافق عليه خارجياً، لأن المطلوب بات واضحاً، في ما يتعلق بتركيبة السلطة ككل، في السياسة والاقتصاد والمال. فانتخاب رئيس ليس نهاية المطاف إنما وضع روزنامة عمل شاملة للبنان. والمعارضة لم تضع حساباتها على الطاولة إلا حصراً برئيس الجمهورية، ولم تلتفت بعد إلى الصورة الشاملة المطلوبة على مستويات عدة.
مشكلة الدول الأربع المدركة لخطورة الوضع اللبناني أن لديها ملفات أكثر أهمية ستنصرف إليها عاجلاً


في المقلب الآخر، فإن عدم تأمين الأصوات الكافية لفرنجية داخلياً وعدم اقتناع الدول المشاركة في لقاء باريس به، لا يفرض على الثنائي الشيعي تقديم تنازلات متتالية في ما يتعلق بترشيحه. خصوصاً أن المعارضة تواجه فريقاً لم يتمكن من عقد جلسات تشريعية وأصيب في موضوع التوقيت الصيفي الذي كاد يفجر البلد وأخرج كل الأفكار الطائفية «الحقيقية» إلى العلن، ما يعني أنه من الصعب عليه التراجع مرة أخرى تحت وطأة ضغط خارجي، لا سيما من جانب السعودية وواشنطن. وهذا يعني أن المعارضة ومن وراءها أمام اختبار الانتقال إلى مرحلة أخرى، تتعلق بكيفية استثمار ما حققته ليس من تقدم إنما على الأقل في إجهاض محاولات الفريق الآخر، وتوقع ما يمكن أن يقوم به من الآن وصاعداً.
هذا كله يفترض الوصول إلى حقيقة واحدة: ما يتوقع حصوله في موضوع رئاسة الجمهورية، ليس في المدى المنظور. ومشكلة الدول الأربع المدركة لخطورة الوضع اللبناني أن لديها، على رغم تحركها الحالي، ملفات أكثر أهمية عالقة، ستنصرف إليها عاجلاً. وهي ترى أن القوى اللبنانية تتصرف، بحسب ما وصل إليها من نتائج محادثات متعددة، من دون استعجال، بل بتمهل مطلق لا يعكس حقيقة المخاطر الداخلية.