يخيم الهدوء ساعة العصر على منطقة طريق الجديدة، القلب النابض للشارع البيروتي. يتجمع البعض قرب مسجد في أول شارع عفيف الطيبي يستمعون إلى درس رمضاني. غير بعيد عنهم، تنتشر بعض عربات عصير الليمون والجزر، أحد الشواهد القليلة على أن الدنيا رمضان. نسأل الفتيان الذين يعصرون الفاكهة الطازجة، ويملأون العبوات بأحجام مختلفة، عن حركة البيع فيجيبون «ضعيفة، ما حدا عم يشتري، مش عم نخلص البضاعة، ولذلك لا نعصر كل الليمون»، مشيرين إلى أن أسعارهم غير مرتفعة. «الكبيرة بـ 150 ألف ليرة».قرب العربة، نصب أحدهم خيمة رمضانية لبيع الحلويات الرمضانية، إنه الموسم المنتظر لـ«شوية حركة». يبيع دزينة القطايف المقلية بـ 400 ألف ليرة، والشعيبيات بـ 500 ألف ليرة، والعثملية بـ 900 ألف ليرة، والشعيبيات بالقشطة البلدية تباع بمليون ليرة. لكن ماذا عن الإقبال؟ يجيب «نقول الحمد لله، رخصنا الأسعار، نبيع كثيراً، ونربح قليلاً».

ناس فوق وناس تحت
على أحد الأرصفة، رجل ستيني يجالس صديقه. كيف يمضي شهر رمضان في ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية؟ نسأله، فيجيب باقتضاب مشوب بالأسى «من يقنع يعش، والله كريم على أي حال». نكرّر السؤال بطريقة أخرى عن أحوال الناس وكيف تتدبّر أمورها، فيجيب مجدّداً باقتضاب «الناس صنفان: ناس فوق وناس تحت». يعلّق صاحبه «أكثر من الفقرا ما في. قديماً، كانت الناس تساعد بعضها، أما اليوم فكلهم يحتاجون إلى العون». هذا ما يؤكده صاحب ملحمة خالية من الزبائن. «الوضع معروف. الناس كلها تعبانة. هل من جديد في قول هذا».
لا جديد فعلاً، وهذا ما يؤكده أيضاً سؤالنا في مؤسسة للمفتي الشهيد الشيخ حسن خالد عن المساعدات التي تقدم للناس. يقول أحد الحاضرين إن «المؤسسة تساعد حالياً 1400 عائلة، كما يدعم صندوق الزكاة كثيراً من العائلات»، ولا يكاد ينهي كلامه حتى تسأله امرأة عن آليّة التسجيل لأنها تريد مساعدة.
الناس صنفان فوق وتحت ومن هم تحت أغلبيّة صامتة مهما علا صوت الزحام


في حيّ السبيل وحي البرجاوي وشارع حمد وأبو شاكر، المشهد نفسه. يخبرنا صاحب مطعم القدس خالد شعبان أن حال الناس تعيسة جداً «قصدني بعض النسوة يسألن عن الرز الذي كنا نقدّمه سابقاً، فقد كنت مندوباً لمائدة عباد الرحمن، أوزع للمحتاجين. اليوم، أشعر بغصة عندما يرجع الناس من عندي خائبين». يكشف أن أحوال الناس تدهورت كثيراً «فقد سألتني سيدة، أعرفها جيداً، المساعدة، كانت هذه المرة الأولى التي تسأل عن مساعدة»، مؤكداً أن أغلب الناس بحاجة إلى المساعدة ولو أن ذلك غير ظاهر للعيان!
وحدها الزحمة أمام حلويات صفصوف الشهيرة، تشير إلى الصورة المعتادة للشهر الكريم، رغم أن الأسعار مدولرة، ويمكن وصفها بالمرتفعة نسبة إلى معدلات الأجور الحالية. فالعثملية بـ 14 دولاراً، والداعوقية بـ 13 دولاراً، والحدف بمليون و250 ألف ليرة… وتبرّر ابنة صاحبة المحل هذه الأسعار بالضرورية «للحفاظ على الجودة التي يشهد عليها إقبال الناس، والناس تنتظر من السنة إلى السنة لتأكل حلويات رمضان الشهية من عند صفصوف».

فتوش غير مكتمل المكوّنات
إلى سوق الخضر في منطقة الشياح، حيث تمشي النسوة في سوق الجمّال الشهير بعربات شبه فارغة. يصرخ الباعة معلنين عن عروضاتهم المغرية «الخسة بـ 40 ألف بدل الـ 50». ورغم زحمة السوق اليومية، إلا أن «الغالبية تشتري حاجاتها بالنصف كيلو، والأوقية، وحتى الحبة» يقول أبو حسين، صاحب عربة لبيع الخضر. وليؤكد على وضع الناس البائس، يشير إلى كيسَي بطاطا كبيرين أمامه ويقول: «لقد مرّ يومان ولم يفرغا». ولكي لا يبدو كمن يستثني نفسه من تردّي الأوضاع يفصح أنه وعائلته لم يتذوّقوا اللحمة منذ شهر.
الأمر ليس مرتبطاً بشهر رمضان، فقد اعتاد الباعة قلّة البيع، كما اعتاد كثيرون أن يأكلوا صحن فتوش غير مكتمل المكوّنات. أما اللحوم والدجاج فالكثيرون استغنوا عنها. تقول سميرة رضا إنها باتت تركز على الدجاج «بدل كيلو اللحمة أشتري 3 كيلو دجاج مسحب، والحلويات أحضرها في البيت... أعمل كل ما بوسعي لأوفر».
تقول ليلى إن الوضع صعب جداً «حتى لو لم يظهر ذلك بوضوح على الناس، فأنا أقف هنا من الثامنة صباحاً حتى الثانية بعد الظهر وأرى بعيني كيف أن هناك من يشتهي حبة الفليفلة». تبيع ليلى الخضر، حتى تلك البائدة، التي «كنا سابقاً نوزعها مجاناً آخر النهار أو في اليوم التالي. اليوم نبيعها برسمالها وما دون، تجدين لديّ أسعاراً بـ 5 و10 آلاف ليرة، البندورة شبه التالفة تشتريها النسوة للعصير والطبخ، هكذا نعيش نحن والناس». وتضيف إنها عندما تغلق ترمي بقايا لا تعود صالحة للبيع بأيّ شكل «ومع ذلك تجدين من يأتي ويأخذها».
في المقابل، ترى ليندا، وهي أمّ لطفلين، أن «الناس عايشة، وكلّو معو مصاري وعم يشتري، من يقول لك إن هناك فقر يكذب». أما هي فتعاني بعدما تركت وظيفتها في المحاسبة، وباتت تتّكل على عائلتها، «لم نعد ندخل اللحم والدجاج إلى البيت». تشكو من أن المساعدات التي تعطى يأخذها من لا يحتاج «كلّ شيء محسوبيات حتى الإعاشات».
تلفت ليلى إلى أن سوق الخضر هذا لا يقصده من معه المال، مكرّرة مقولة الرجل الستيني الذي قابلناه في الطريق الجديدة «الناس صنفان: ناس فوق وناس تحت»، رافعة إحدى يديها، ومخفضة الثانية. ومن هم تحت، أغلبية صامتة مهما علا صوت الزحام.