
كما بعد أيّ حدث زلزالي مشابه على فالق ما، كان من الطبيعي حدوث هزّات أرضية ارتدادية، هي نتيجة انكسارات وتحرّك جيوب صغيرة نسبياً في منطقة الفالق. لغاية اليوم، بعد مرور 30 يوماً على حدوث الزلزال تم رصد أكثر من 11 ألفاً من الهزّات الأرضية الارتدادية في منطقة الفالق، هي بغالبيتها الساحقة (95% منها) هزّات خفيفة بقدرة أقلّ من 4 درجات (انظر الرسم البياني المرفق) وما زالت تحدث إلى يومنا هذا.
الواضح أن أعداد الهزّات الأرضية الارتدادية وقدرتها القصوى تتضاءلان مع الوقت. في الأيام الأولى بعد حدوث الزلزال الكبير، كان عدد الهزّات الارتدادية التي بقدرة تفوق 2.5 (درجتان وخمسة أعشار من الدرجة) بالمئات يومياً، وأصبحت اليوم بالعشرات. لقد مضى أكثر من 14 يوماً على تاريخ آخر هزّة أرضية بقدرة تفوق 6 درجات (قدرة 6.4، حدثت يوم 20 شباط/ فبراير)، في حين أن 5 هزّات أرضية كبرى بقدرة تفوق 6 درجات حصلت في الأسبوع الأول بعد 6 شباط/ فبراير. هذا التناقص في عدد الهزّات الأرضية الارتدادية، وقدرتها بعد الزلازل الكبيرة، أمر معروف عالمياً. تأخذ الطبيعة مجراها لتُخرِج ما تبقى من طاقةٍ كامنة على القسم الذي تحرّك من الفالق. نستطيع، عبر تحليل بيانات الهزّات الأرضية الارتدادية أن نقدّر المدة الزمنية المطلوبة لتصدير هذه الطاقة بحوالى سنة، تعودُ من بعدها نسبةُ حدوث الهزات الأرضية اليومية وقدرتها، إلى ما كانت عليه قبل تاريخ الزلزال. من المُلفت علمياً أن يكون زلزال كهرمان مرعش قد أدى إلى حدوث زلزال آخر كبير عند ظهيرة اليوم نفسه، محرّكاً فالقاً آخراً على مقربة من فالق شرقي الأناضول، جنوب مدينة البستان التركية، وبقدرة 7.5 (سبع درجات وخمسة أعشار من الدرجة) ما زاد في عدد الهزّات الأرضية الارتدادية في المنطقة، ووسّع نطاق الرقعة المتأثرة بالارتجاجات، وزاد من فداحة الأضرار.
تمّ رصد أكثر من 11 ألف هزّة أرضية ارتدادية هي بغالبيتها الساحقة هزّات خفيفة
أخرَجَ زلزال كهرمان مرعش، وما تبعَهُ من هزّاتٍ ارتدادية، طاقةً كبيرة كانت القشرةُ الأرضية قد اختزَنتها خلال العقود والقرون المنصرمة. طاقةٌ هائلة يمكن احتسابها علمياً (انظر/ي الرسم البياني المرفق)، تعادل الطاقة المنتجة في حوالى 20 ألف معمل حراري مماثل لمعمل الذوق الحراري في لبنان، أو 1600 معمل كهربائي مشابه لمفاعل «كوري»، أكبر المفاعلات النووية في العالم.
يُظهر الرسم البياني المرفق، المحتوى من الطاقة لكلٍّ من الهزّات الأرضية الارتدادية المسجلة. ويشير الخط البياني لتراكُم الطاقة الزلزالية المنبعثة من منطقة الهزّات الارتدادية إلى مدى أهمية الهزّات الكبيرة في إصدار الطاقة، مقارنة مع الهزّات الصغيرة. تشكل الهزّة الأرضية الكبيرة الأولى، التي حدثت عند ساعات الصباح من 6 شباط/ فبراير حوالى 70% من إجمالي الطاقة المنبعثة. أما الهزّة الأرضية الثانية التي تبعتها عند الظهيرة، فتشكل حوالى 25% من إجمالي الطاقة. ويكون لمجمل الهزّات الأرضية الارتدادية المتبقية (أي حوالى 3857 هزة ارتدادية) المبيّنة في الرسم ما مجموعه أقلّ من 5% من الطاقة الزلزالية المنبعثة حتى يومنا هذا.
يمكن أن نستنتج من المعلومات المتجمّعة من مراصد الزلازل العالمية (انظر/ي الرسم البياني المرفق) الأمور التالية:
1- غياب أيّ نشاط زلزالي استثنائي واضح في الأيام العشرين قبل تاريخ 6 شباط/ فبراير في منطقة فالق شرقي الأناضول. وللمفارقة غاب النشاط الزلزالي تماماً في الـ24 ساعة التي سبقت الحدث الزلزالي الكبير. يدلّ ذلك على صعوبة الاعتماد على فكرة ضرورة ازدياد النشاط الزلزالي في منطقة ما قبل حدوث هزّات أرضية كبيرة فيها.
2- تَظهَرُ أيضاً، بوضوح، محدودية أو عدم إمكانية الزلازل الصغيرة على «تنفيس» الضغط، أو الطاقة الزلزالية الكامنة المتجمّعة عند الفوالق والصدوع بما يكفي لتجنب حدوث الهزّات الأرضية الكبيرة.
بالخلاصة، بعيداً عن أي تأويل أو تهويل أو تفسيرات شعبويّة، يبقى العلم بما اختبرته الحضارة البشرية واعتمدته من طرق علمية منطقية، هو الثابت الوحيد لفهم الأمور ومقاربتها. ومن أسس العلوم، الارتكاز إلى المعلومات الموثقة في التحليلات واختبار الأفكار للوصول إلى القواعد. والله وليّ التوفيق.
* باحث وأستاذ في الجيوفيزياء وعلم الزلازل