لم يكن خروج الرئيس سعد الحريري من الحياة السياسيّة، وحده ما «فتّح عيون» القوى المسيحيّة على تقسيم بيروت إلى بلديّتين. هو أشبه بحلم عمره عشرات السنين، يعرف كثيرون أنّه صعب المنال، ولكن لا ضيْر من السعي إليه بطرقٍ مختلفة. مبرّرات استعادة «بيروت الشرقيّة» و«بيروت الغربيّة» تبدأ بغياب الإنماء المتوازن بين «البيروتين»، ولا تنتهي بغياب التمثيل المسيحي في المجلس البلدي.
عودةٌ إلى الانتخابات البلديّة الأخيرة، عام 2016، تؤكّد ذلك: رئيس حزب القوات اللبنانيّة سمير جعجع أعلن لدى استقباله وفداً من المجلس البلدي المنتخب بأنّها «المرة الأخيرة التي نقبل فيها أن نخوض الانتخابات البلدية بهذه الطريقة». وهو ما أكّده رئيس حزب الكتائب سامي الجميّل عندما وعَد قيادييه بالعمل على «تقسيم البلديّة في المرّة المقبلة». وحتّى النواب المسيحيون المحسوبون على الحريري لم يَسلموا من «نزعة التقسيم»، إذ لوّح النائب السابق ميشال فرعون عام 2018 بأنّه «في حال لم تتحرك عجلة المشاريع، سنُطالب بتقسيم البلدية وتقسيم الرسوم لكي نحظى بالإنماء المتوازن الذي حُرمنا منه».
إذاً، «نغمة التقسيم» ليست جديدة، لكن ما زادها ارتفاعاً هو أن أي انتخابات بلدية في ظلّ الأوضاع السياسيّة الحاليّة ستُطيح حتماً عرفَ المناصفة الذي ثبّته الرئيس رفيق الحريري منذ عام 1998 عندما قرّر «وقف العدّ»، والتزمه سعد الحريري من بعده.
ما يعزّز مخاوف القوى المسيحيّة أن المُناصفة في بيروت كادت أن تُصبح «في خبر كان» في انتخابات 2016، عندما كان تيّار المستقبل في عزّه. في ظل انكفاء التيار الأزرق، ومع تغيّر الخريطة السياسيّة ودخول مستقلين ونواب محسوبين على المجتمع المدني على الخط، يصبح خطر أن «يأكل» المسلمون مقاعد المسيحيين في المجلس أكبر!
في عمليّة محاكاة للانتخابات في العاصمة طلبها مسؤولون رسميون أخيراً، كانت النتيجة 22 عضواً بلدياً مسلماً مقابل اثنين مسيحيين فقط. غير أن قياديين في أحزاب مسيحيّة يلفتون إلى أنّ الأمر لا يحتاج إلى دراسات وإحصاءات، وأنّ وصول عضويَن مسيحييَن من أصل 24 «هو أفضل نتيجة قد نتوقّعها، لأنّه على الأرجح لن يصل أي مسيحي إلى المجلس». ويقول عضو تكتل لبنان القوي النائب نقولا صحناوي لـ«الأخبار» إنّ مثل «هذا الموضوع لا يمكن أن يمر مرور الكرام. المناصفة في العاصمة قضيّة كبرى، وفي حال تمّت إطاحتها فلن نستسهل هذا الأمر».

اقتراحات قوانين
الخشية المتعاظمة من غياب التمثيل المسيحي لمصلحة الـ«محمودات» دفعت بالأحزاب إلى «تصغير» أحلامها البعيدة المنال لتُصبح على قياس الواقع، أو على الأقل تمريرها بطريقة مبطّنة. هذا فعلياً ما يُطالب به متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة الذي يرفض فكرة التقسيم من أساسها، ويُفضّل تكريس عرف المناصفة بقانونٍ صادر عن مجلس النواب، رغم إدراك عودة أنّ الأمر سيعني في المقابل فقدان الأرثوذكس لما يعتبرونه المركز الأهم للطائفة في الجمهوريّة، أي محافظ بلديّة بيروت الذي أُعطي «مجد» أن يكون السلطة التقريريّة مقابل سلطة تنفيذيّة للمجلس البلدي.
على خُطى عودة، تسير الأحزاب المسيحية وتتسابق على تقديم اقتراحات قوانين معجّلة مُكرّرة لقوننة المناصفة. ويقول «القواتيون» إنّهم أعدّوا اقتراحاً لتأمين التمثيل المسيحي في المجلس، وكان النائب غسّان حاصباني يتحضّر لتقديمه إلى المجلس النيابي، إلا أن التيار الوطني الحر «كزّ» الفكرة كما هي وسبقهم بها إلى ساحة النجمة، متخلياً عن اقتراح قانون لاستحداث بلديتين في بيروت كان قد تقدّم به قبل أشهر.
يُخشى أن يكون اقتراح التقسيم بداية تطبيق مشروع الفدرلة الذي لا تخفي قوى كثيرة سعيها إلى تحقيقه


ويتضمّن الاقتراح الذي تقدّم به النواب نقولا صحناوي وسيزار أبي خليل وإدغار طرابلسي، أواخر الشهر الماضي، مادة وحيدة: «تُعاد إضافة المادة 12 المُلغاة بموجب القانون الرقم 665 تاريخ 39/12/1997 إلى قانون البلديات وفقاً لما يلي: يُنتخب أعضاء المجلس البلدي في بيروت على أساس تقسيم الدوائر المُعتمد لانتخاب أعضاء مجلس النواب في بيروت (دائرة بيروت الأولى ودائرة بيروت الثانية) وذلك بالتساوي بين الدوائر». وفي الأسباب الموجبة، أن «مراعاة المناصفة تساهم بشكل لا يحتمل التأويل في تحقيق المصلحة العامّة وتأمين الانتظام العام والسلم الأهلي، فضلاً عن أن من شأنها الحؤول دون المُطالبة باستحداث بلديتين لضمان صحة التمثيل الميثاقي (...) بما أن الهويّة الدستوريّة التي تكون أساساً لوضع الدساتير ومُلهمة للقواعد الدستوريّة، لا يستقيم المساس بها أو تفسيرها إلا عبر سلوك طريق تعديل الدستور بحدّ ذاته، ولا يجوز بالتالي الالتفاف عليها بالممارسة أو من خلال القوانين أو بفعل الأمر الواقع».
إذاً، ما يطمح إليه «العونيون» و«القواتيون»، ومعهما «الكتائبيون»، هو الذهاب إلى انتخابات العاصمة على أساس دائرتين، على أن ينتخب أبناء الدائرة الأولى 10 مسيحيين ومسلمَين اثنين، وينتخب أبناء الثانية 10 مسلمين واثنين مسيحييَن.
وقد بدأ نواب «لبنان القوي» جولة على الأحزاب والفاعليّات «لنرى جديّة إجراء الانتخابات وجديتهم أيضاً في تطبيق المناصفة. طالما أن الجميع تهمّه المناصفة فلنسعَ إلى تغيير النص القانوني، إذ إن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من جلسةٍ تشريعيّة واحدة»، وفق ما يقول صحناوي، مشدّداً على «أنّ كتلتنا جاهزة لحضور جلسة تشريعيّة لإقراره، وخصوصاً أنّ موقفنا في المشاركة هو أن تكون بنودها طارئة، وهذه القضيّة طارئة». فيما يرفض حزبا القوات والكتائب السيْر بالجلسة، بحسب مسؤوليهما.
أمّا في حال عدم تعديل القانون الانتخابي الحالي، فيؤكّد صحناوي أنّه «سيكون لنا موقف كبير نُعلن عنه في وقته». وهذا أيضاً ما يُلمّح إليه الوزير السابق آلان حكيم، بإشارته إلى أنّ لدى «حزب الكتائب توجّهاً، لكنّه لن يُعلن عنه في الوقت الحالي». فيما يؤكد حزب القوات أنّه سيُقدّم اقتراح القانون وسيسعى لإقناع الكتل به «في حال شعرنا أن هناك جديّة في إجراء الانتخابات، لأنّه حتى الآن لا إشارات واضحة إلى ذلك».
على الضفة المقابلة، لا يبدو أن أياً من الأحزاب الأخرى مستعدّ لتحمّل تبعات انتخابات مجلس بلدي من دون مسيحيين. الثنائي الشيعي لا يزال يستطلع الأوضاع. لا يجهر نوابه برفض اقتراح قانون «لبنان القوي» بالمطلق، لكنهم يشدّدون في المقابل على رفض أي صيغة ترمي إلى «فدرلة» بلديّة العاصمة «كي لا يكون ذلك مدخلاً إلى تقسيم لبنان».
يؤكّد نائب حركة أمل محمّد خواجة أنّ «موقفنا من استحداث بلديتين معروف، كما أننا نتمسّك بحفظ الشراكة ويعنينا التمثيل المسيحي. والأهم هو العمل على النهوض ببيروت من دون أن يكون هناك تعطيل بين السلطتين التنفيذية والتشريعيّة». أمّا تيّار المستقبل، أكثر الأطراف الإسلامية المعنية بالأمر، فغائب عن السّمع تماماً. ويقول قياديوه إنّه «خارج اللعبة في الوقت الحالي ولا يتدخّل، ولكن هذا لا يعني بقاء الأمر على حاله». ما لا يقوله «المستقبليون» يُمكن استخلاصه من أحاديث مسؤوليه الذين يبدون كمن يضحكون في سرّهم على ما آلت إليه أوضاع القوى المسيحيّة في بيروت بعد غياب الحريري.