ماذا يعني أن تكون أيَّ شيءٍ في لبنان؟! بل ماذا يعني أن تكون لبنانياً في لبنان، أو أن تكون، بكل بساطة، في لبنان؟ في الأزمنة الرديئة، يعني كثيراً ولا يعني شيئاً أن تكون ما أنت، بحسب تهافت الويلات أو انكفائها. قد لا يعني شيئاً في محصّلة الحسابات العابرة للزمن، المصلحيّة إلى حدّ تجاوز الناس، كل الناس، وقد يعني كثيراً أن تقف على حافة الهاوية ولا تقع، أو أن تقفز فوقها إلى جهةٍ أخرى، في ما يُعرف باقتناص الفرص، تلك التي غالباً ما تفرزها الأزمات، على هامشها. أزماتنا (بالجمع، وهي متلاحقة ومتنوّعة) ضربت عميقاً في القطاعات الإنتاجية على اختلافها وليس المحامون بمنأى عنها، لكن أزمة هؤلاء لا تقتصر على ما باتت تدرّه عليهم مهنتهم، بل تتعدّاه إلى ما تعنيه تلك المهنة في ظلّ تفكّك أوصال الدولة وفي ظلّ ضرب استقلالية القضاء وتهالك الحقوق وتحوّل الدستور إلى وجهة نظر واستحالة القوانين إلى نصوص مع وقف التنفيذ..لنترك التفاصيل جانباً -رغم أهمّيتها- فهي ستأخذ، في مواقع أخرى من هذا الملحق، حقّها في المقاربة. ولنبحث في ما تعنيه المهنة - الرسالة، إذ "تساهم المحاماة في تنفيذ الخدمة العامة، لهذا تولي من يمارسها الحقوق والحصانات والضمانات التي ينصّ عليها هذا القانون كما تلزمه بالموجبات التي يفرضها"، بحسب ما ورد في قانون تنظيم المهنة. كلامٌ هو غاية المأمول من نقابة المحامين، عموماً، ومن المحامين، منفردين، خصوصاً. ماذا يعني أن تكون مساهماً في الخدمة العامة؟ أليست العدالة خدمة عامة؟ أوَلَيس تعطيلها المقصود تعطيلاً لخدمة الناس على وجهٍ صحيح، في الحقّ الذي قيل لنا يوماً إنه يعلو ولا يُعلى عليه، فإذا به يظهر مسحوقاً تحت أقدام معطّلي المسارات القضائية.. ماذا يعني أن تكون محامياً والعدالة تخضع لنقيضها؟ بل ماذا يعني أن تكون محامياً أتعبته الأزمنة فأخرسته وأحبطته منكفئاً؟ المساهمة في الخدمة العامة تتعاظم في الأزمات، أو هكذا يجب، فتصبح واجباً وطنياً، وقد رأينا كوكبة من المحاميات والمحامين الذين أخذوا على عاتقهم الدفاع عن حقوق الدولة من بعض من يتولّى السلطة فيها، رأيناهم يتطوّعون للدفاع عن مظلومية هنا أو انتهاكٍ هناك، رأيناهم في الساحات المطلبية، كما رأيناهم في عمقِ دراساتٍ تستطيع أن تُخرج البلد من عنق الزجاجة إلى رحاب الإصلاح والتطوير. هؤلاء هم أصحاب الرسالة ودورهم اليوم واجب عليهم، لا خيار. غداً، عندما تستقر الأمور، يمكنهم العودة إلى ممارسة المهنة بمعناها الضيّق، أما اليوم، فالعمل كثير والفعلة قليلون..
ماذا يعني أن تكون محامياً؟ يعني أن تكون جزءاً من نقابةٍ عريقة، تحملُ إرثاً، كما تحمل حلماً، بين ماضٍ ومستقبل، وهي تجهدُ واضعةً المحامين في صلب معادلة الخدمة العامة، بالكلمة والقلم، بالتحرّك والانخراط في معركة العدالة. في اللاتينية عبارة تقول: «Alis volat propriis»، وتعني ترجمتها: "تحلّق بأجنحتها الخاصة". هكذا ينبغي للعدالة أن تُحلّق..
ماذا يعني أن تكون محامياً في لبنان اليوم؟ يعني، بكل بساطة، أن تخرجَ من الصورة النمطية لمحامٍ يترافع بثوبه الأسود إلى محامٍ يضع ثوبه غطاءً لمن قرس البرد حقوقه. الدور أهمّ من الثوب..