لم أنتظر مهنة المحاماة لأبدأ دفاعي عن المظلومين والمضطهدين وكل الفئات الأكثر ضعفاً، بل جاءت لتزيد من مسؤولياتي وتوسّع من دائرة القضايا التي أناصرها. في السنة الأولى لتدرّجي، خضت أولى معاركي النضالية بصفتي المهنية، محامية متطوّعة للدفاع عن ممرض فلسطيني صُرف تعسفياً من إحدى المؤسسات الاستشفائية.
جادلت وناقشت وبحثت في كتب القانون والاجتهاد ووصلت إلى فلسطين سنة 1920، لأستحضر دستورها آنذاك الذي يعامل كل عربي معاملة الفلسطيني على أرض فلسطين، لأبيّن للقاضي أن شرط «المعاملة بالمثل» كان متوفراً في فلسطين الحرة، وأن الاتفاقيات الدولية التي قدّمها دستورنا اللبناني على القوانين، تصون حقّ العمل لكلّ إنسان، وتعطي كل عامل حقّه في التعويض والبدل العادل والبيئة الآمنة والضمانات الاجتماعية كافةً، بغضّ النظر عن جنسيّته أو لونه أو دينه.. لكن الواقع لم يكن كذلك.

محاكاة محامية متدرجة - بيت المحامي 2011 (مروان بوحيدر)

خلال سنتين من عمر المحاكمة، أمام مجلس العمل التحكيمي بداية، ومحكمة التمييز لاحقاً، كان في ذهني هدفان: الأوّل، وقوفي إلى جانب الفئة الأكثر ضعفاً وظلماً وهم العمّال الفلسطينيون الممنوعون من العمل في عشرات المهن ووضع حدّ لاستغلالهم من قِبل أرباب العمل باللجوء إلى القضاء. والثاني، المطالبة بتطبيق مضمون الاتفاقيات الدولية الملزمة والمقدّمة على القوانين المحليّة لحماية الفئات الأكثر ضعفاً، كَون هذا ما تعلّمناه على مقاعد الدراسة، وقد حان وقت تطبيق هذه النظريات.
كنت أدرك أن كل ما أقوم به لن تتعدّى نتيجته أكثر من فتح ثغرة للنقاش والتفكير في هذه الحقوق، وأن يتجرّأ كل عامل فلسطيني استُغلّ، على رفع دعوى حقوق عمالية وإن خسرها. فالتكرار قد يصل بنا إلى فتح ثغرة للاجتهاد لو توفّر قاضٍ جريء يطبّق قواعد العدل والإنصاف ويقدّمها على النصّ القانوني الجامد.
هذا النهج المتّبع لمفهوم مهنة المحاماة لا يحمله كثيرون، وهو مرتبط بالثقافة التي ينشأ عليها كل فرد وكيف يسخّر إمكاناته وعلومه في خدمة قضاياه، إذ ينظر لكلّ قضية تُعرض أمامه بعين القاضي العادل وبعين المناضل، من أجل مجتمع أفضل وأكثر وعياً، وليس بعين المحامي التقليدي الذي يقف إلى جانب موكله، سواء كان ظالماً أو مظلوماً، وهذا لا يعني أن المحامي التقليدي غير ناجح.
لم يكن قَسَم مهنة المحاماة، الذي به نبدأ مسار حياتنا كمحامين، سوى بضع كلمات تضع ضوابط عامّة لسرية المهنة والحفاظ على آدابها وتقاليدها والتقيّد بالقوانين والأنظمة، وأن نحترم القضاء ولا نخلّ بأمن الدولة متمسّكين بالأخلاق والآداب، وأن تبقى كل أعمالنا مصدراً للثقة والاحترام. بضع كلمات يرددها عشرات المحامين الجُدد ترداداً ببغائياً، ولم يعد معظمنا يذكر أي كلمة منها، لأن الحياة العملية لمهنة المحاماة تضعنا أمام نهج مناقض لمعظم ما تعلّمناه على مقاعد الدراسة في كلية الحقوق، ويناقض نَصّ اليمين وروحه.
فكيف لنا في نظام طائفي قائم على المحاصصة أن نتقيّد بالقوانين والأنظمة؟
كيف لنا في نظام طائفي لا قيمة للكفاءة فيه من دون الوسم المذهبي أن نشعر بالانتماء إلى الدولة ومؤسساتها؟
كيف لنا أن نحترم القضاء وفي بلادنا يُختصر القضاء بسؤال كل موكل: «هيدا القاضي مين مفتاحو؟»
لم أتمكن خلال 23 سنة من مهنة المحاماة من أن أفهم قواعد اللعبة اللبنانية فيها، وأن أعتبر الموكل مجرّد زبون أقدّم له خدمة استشارية أو قانونية مقابل بدل مالي من دون أي ضمانات للربح أو الخسارة. وكيف «أجرجر» طالب الاستشارة إلى رفع دعوى أو أكثر وإن كان أمره بسيطاً يُمكن حلّه بعيداً عن تكاليف التقاضي (حسب الموضوع والقدرة المالية للموكل). حتى بات معظم أصدقائي ينادونني بـ«كاريتاس» لأنني أقدّم يومياً استشارات قانونية مجاناً، وأنصح كثيرين بحل مشاكلهم بعيداً عن زواريب القضاء والمحاكمات الطويلة. ومَن لا إمكانية للحل معه خارج آليات التقاضي العادية، أحسب ألف حساب للمبلغ المالي الذي سأطلبه منه كبدل أتعاب ورسوم للدعوى لأن تعاطفي مع حال الناس وأوضاعهم يلازمني، فكيف سيكون حالي كمحامٍ عام 2023؟
خلال 23 سنة من مهنة المحاماة، خضت معارك كبرى لملفات لم يكن سهلاً خوضها، واتّبعت آليات التقاضي الاستراتيجي في كل قضية أحملها لأنني أرى المجتمع كاملاً من خلالها. واجهت منظومة الفساد منفردة في أكثر من ملف، لا سلاح بيدي سوى أحقّية القضية التي أعمل عليها. لم أستغل يوماً معرفتي الشخصية بقاض (زملاء دراسة على سبيل المثال)، ولم أطرق يوماً باب أحدهم لأقول له صباح الخير تودّداً، ولم أتّبع أسلوب بعض المحامين باكتساب أدوات العبور لبعض القضاة أو بعض أفراد الضابطة العدلية، سواء كانت شخصية أو سياسية أو مالية أو أنثوية، وأنا لست أبالغ في ما أقول بل أنقل الواقع كما هو وبكل شفافيّة.
هذا الواقع المرّ الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، من شلل كامل في كل مؤسسات الدولة وعلى رأسها السلطة القضائية، كان نتيجة السكوت عنه ومحاولة تجميله وترقيعه من كل فئات المجتمع، وعلى رأسهم النقابات ونقابة المحامين «أمّ النقابات»، حيث تقع عليها مسؤولية الدفاع عن المجتمع وما يُحاك له خلف الكواليس.
أن أكون محامياً في عام 2023، يعني أن أرمي وراء ظهري كل ما آمنت به وناضلت لأجله، أو أن أبحث عن عمل آخر


كيف لنا أن نفخر بأننا ننتمي إلى مهنة الحقّ والعدالة ونحن نمارس بأبسط المهام خلاف ذلك، من بدء تجهيز ملفّنا للانتساب إلى النقابة، وصولاً إلى الامتحانات الشفهية والخطية، مروراً بسنوات التدرّج الثلاث، وختامها بامتحان مصيري آخر لتنال بنتيجته لقب «محام بالاستئناف». وترمى في غربال طائفي ومذهبي وسياسي ضيّق يحسب الأصوات الانتخابية بكل دقّة وأمانة.
هذه هي حالنا، رعايا في منظومة طائفية تحمي مصالح الطوائف وتوزّع الغنائم بينها بالعدل، تتميّز بازدواج المعايير. فالحقّ ليس واحداً والعدل ليس واحداً، والنص القانوني تختلف تطبيقاته بين قضية وأخرى، ولم تكن لنا يوماً قضية مركزية جامعة.
تُمارس بحقنا الانتهاكات على أنواعها، وما مرّ علينا خلال السنوات الثلاث الأخيرة يستحق دخولنا موسوعة غينيس لجهة أكثر الشعوب ولاءً للمنظومة الطائفية وسكوتاً على الطغمة الحاكمة من دون أي مقابل.
في عام 2023، ماذا يعني أن تكون محامياً؟
يعني أن أرمي وراء ظهري كل ما آمنت به وناضلت لأجله وأعود إلى ممارسة مهنتي بشكل تقليدي أوتوماتيكي، من دون أن أتعاطف مع الناس، أو أن أبحث عن عمل آخر لأحمي ما تبقّى من إنسانيتي من أجلي ومن أجل أولادي.