يبدو أن دور وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة والمسموعة والإلكترونية في حسم الحقائق وإصدار الأحكام في شتى القضايا والجرائم والحوادث، يتعاظم في ظل تعطيل القضاء وندرة انعقاد المحاكم والتراجع في متابعة الملاحقات القضائية. لذلك، وأكثر من أي وقت مضى، يبرز خطر الانزلاق إلى فبركة الحقائق وإصدار الأحكام المسبقة والاستنتاجات المتسرعة التي تناسب أطرافاً معيّنة أو جهات سياسية أو «ما يطلبه الجمهور». وكنا قد حذّرنا في العدد الأول من «القوس» (عدد 1، كانون الثاني 2022)، من خطورة تسريب التحقيقات القضائية ونشر المعلومات المضللة والإشاعات التي، في بعض الأحيان، قد يفبركها المجرمون لتضليل التحقيق وإبعاد الشبهات عنهم. إن تسريب التحقيق يشكَل انتهاكاً للإجراءات القانونية الواجبة، ويسيء إلى مسار العدالة الصحيح. فلا يحق لأي إعلامي تولي دور المحقق القضائي، ولا يحق لأي ضابط أو رتيب أو قاض أو مدّع عام أو موظف تسريب التحقيقات. من الضروري التعامل مع التحقيقات الجنائية بتكتّم شديد وسرية تامة كي لا يفلت المجرم من العقاب وتتحقق العدالة، ولاحتواء تبعات الجريمة على الأمن والاستقرار.

تؤثر التغطية التلفزيونية والصحافية للقضايا الجنائية مباشرة وبشكل كبير على سمعة المشتبه فيه من خلال خلق تصوّر واسع النطاق بالذنب أو البراءة قبل صدور حكم من قِبل المحكمة المستقلة. بالتالي، قد تتحمل بعض وسائل الإعلام قسطاً من المسؤولية عن ازدراء المحكمة بنشرها أخباراً وتسريبات تنتهك حق الأفراد بـ«محاكمة عادلة» أو أي شيء من شأنه أن يخلّ بحياد المحكمة عند بناء القرار والبتّ في الأحكام بناءً على الوقائع المعروضة بالأدلة والقانون المطبق على تلك الأدلة.
المحاكمة الإعلامية تمارس الضغط على فريق الدفاع أيضاً لعدم النظر في قضايا المشتبه فيهم، بالتالي محاولة إجبار هؤلاء المتهمين على المثول أمام المحكمة من دون أي دفاع جدّي. ألن يكون من الصعب لمحامي الدفاع عن مشتبه فيه (م) في جريمة المرفأ مثلاً؟ أو في جريمة اغتيال الناشط السياسي لقمان سليم؟ أو غيرها من القضايا التي نشرت بعض وسائل الإعلام أحكاماً مسبقة في شأنها؟ أليس ذلك ضد مبادئ العدالة والإنصاف؟
المحاكمة عن طريق وسائل الإعلام تمسّ بالمحكمة وتعيق إقامة العدالة وتحديد الحقيقة، ويفترض، بحسب القانون أن يعاقب كل من يتحيّز ويتدخل في العملية القضائية، غير ذلك قد يُدان الأشخاص بجرائم لم يرتكبوها، ويفلت المجرمون من العقاب، أي منشور أو تقرير قد يؤدي إلى التأثير على أذهان المحققين أو القضاة أو إلى ترهيب الشهود يؤسس مناخاً يكون من الصعب أو المستحيل فيه إقامة العدل.
الانحياز شائع لدى معظم الناس في شتى القضايا، لكن الإشكالية تظهر في تأثير الانحياز على عرض الأدلة والمداولات في القضايا الجنائية. ولا شك في أن معظم القضاة يهتمون أيضاً بسمعتهم بين الناس لا سيّما في القضايا الجرمية البارزة. ويمكن أن يحكم بعض القضاة وفقاً لاعتبارات مسبقة غالباً ما تروّج لها تقارير وحملات تنشر في وسائل الإعلام وما «يطلبه الجمهور»، فيتجاوز الحكم الأدلة وقيمتها الثبوتية.

«تبسيط» الجريمة عبر وسائل الإعلام
تميل وسائل الإعلام إلى تحليل الوضع النفسي للمشتبه فيهم في تغطيتها للجريمة، وتغفل البحث في السياق الاجتماعي. على سبيل المثال، يُستشهد في قصص الجريمة غالباً بالشرطة والضحايا وعائلاتهم، بدلاً من الاستشهاد بالخبراء في هذا المجال. كما تفتقر التغطية الإعلامية بشكل عام إلى الموضوعية والمهنية، وبخاصة، في التحليل المهني العلمي للمخاطر الفعلية المرتبطة بالجريمة. وكذلك فإن الوسائل الإعلامية تجعل الجمهور «عاطفياً» أو «غاضباً» من خلال إفراطها في عرض قصص ضحايا الجريمة، بالتالي، قد ينتشر الخوف اللا واقعي من الجريمة في نفوس المشاهدين.

الإجراءات القانونية الواجبة
تشمل الإجراءات القانونية الواجبة Due process، أحكاماً تضمن للمشتبه فيه محاكمة عادلة أمام محكمة مختصة مستقلة، والحق في حضور المحاكمة، والحق في الاستماع إليه في دفاعه. وإحدى أهم ركائز المحاكمة العادلة، قرينة البراءة. فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته من قِبل المحكمة، وليس من قِبل الأجهزة الأمنية أو الوسائل الإعلامية. إلا أن الإعلام والمجتمع غالباً ما يستبقان نتائج التحقيقات الجنائية، بطريقة مقصودة أو غير مقصودة، الأمر الذي ينسف قرينة البراءة ويضلل التحقيقات ويؤدي إلى إفلات المجرمين من العقاب.
المحاكمة العادلة، تعني المحاكمة أمام قاضٍ محايد ومدع عام عادل وجو من الهدوء القضائي. كما تعني المحاكمة التي تكون بعيدة من التحيّز ضد المتهم أو الشهود أو السبب الذي يُحاكم من أجله. لذلك، من الضروري التأكيد على أهمية التحقيق المهني والاحترافي للوصول إلى "الحقيقة"، والذي يكون عبر اتباع المبادئ والإجراءات القانونية التي تنظر وتبحث في جميع الفرضيات قبل الحسم وإطلاق الإدانات المتسرّعة. فبعد أن تقوم الأجهزة الأمنية بعملها -إعادة بناء مسرح الجريمة وتحديد تسلسل الأحداث وما إلى ذلك- تقوم المحكمة المستقلة بتقييم الأدلة بغية الوصول إلى الاستنتاجات العلمية والحكم العادل. مع الأخذ في الاعتبار أن الإدارة السليمة للعدالة لها جانبان: المؤسسي (استقلالية ونزاهة المحكمة والوكالات التي تتعامل بشكل صحيح مع المقاضاة)، والإجرائي (إنصاف جلسة الاستماع واحترام حقوق الأطراف).

الوجبة السريعة
لم تختلف الصورة في الجريمة المروّعة التي طاولت عائلة مكوّنة من أب وأم وطفلهما، في بلدة داريا في إقليم الخروب في 24 شباط الماضي. مع العلم أنه لم يصدر أي بيان رسمي حول الحادثة، إنما انشغلت بعض مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام بنشر "معلومات أوليّة" تُفيد بأن "حسن بيه وهو في الثلاثينيات من العمر خنق زوجته وطفله ذا الأربع سنوات قبل أن يلقي بنفسه عن سطح منزله ويلقى حتفه". وسرعان ما تحوّل "الأقارب والجيران" إلى محققين جنائيين وخبراء نفسيين، وقاموا بتحديد الدوافع والأسباب. فبحسب أهالي البلدة أن المشتبه فيه «المدان إعلامياً» كان يعاني من أمراض نفسية واكتئاب بسبب تعاطي المخدرات، الأمر الذي دفعه إلى خنق زوجته "بالوسادة" وطفله "بيديه" قبل أن ينتحر. قد يكون الدافع الأساسي للأهالي هو قلقهم من انتشار ظاهرة تعاطي المخدرات بين الشبّان في الآونة الأخيرة. لكن، وبغض النظر عن ذلك، أليس من الضروري الانتظار ريثما تنتهي المحاكمة قبل إصدار الاتهامات وتحليل الدوافع؟ فالحقيقة الكاملة لدى المحكمة وليست لدى الأجهزة الأمنية المولجة بالتحقيق. وماذا لو كان المشتبه فيه "الأب" ليس هو الجاني؟ ماذا لو كان قاتل أفراد العائلة شخصاً آخر؟ هل سيفلت من العقاب؟



مهارات التحقيق الجنائي
من خلال الكشف العلمي الدقيق على المبنى والمنزل وجثامين الضحايا يمكن تحديد تسلسل الأحداث الجرمية. فمن المهم تحديد ما إذا قتلت الضحيتان خنقاً أم شنقاً، وتوثيق علامات الرباط (أو الأصابع) أو المواد التي استخدمت لأغراض الخنق أو الشنق وتحليل المعلومات المقدمة منها للوصول إلى السبب الأكثر احتمالاً للوفاة (راجع القوس، «بين الشنق والخنق عقدة»، عدد 22 كانون الثاني 2022). من الضروري أيضاً أخذ ماسحات قطنية عن عنق الضحيتين للحمض النووي والتحري عن وجود أي كدمات أو آثار أظافر لمقارنتها مع البصمة الوراثية للمشتبه فيه.
بالإضافة إلى ذلك، من الضروري فحص جثة المشتبه فيه بشكل دقيق للتحري عن وجود أي كدمات أو جروح، لتحديد ما إذا كانت ناتجة من الوقوع من سطح المبنى (إذا كان قد سقط فعلاً). ومن المهم توثيق وضعية جثة المشتبه على الأرض التي يمكن أن تساعد بشكل كبير في تحديد اتجاه ووضعية السقوط. من الضروري أخذ عيّنات من تحت أظافر المشتبه فيه وتقصي آثار اليدين والمواد والكدمات والجروح الموجودة على ظاهر اليد وراحتها (راجع القوس: «الشيطان يكمن في التفاصيل»، عدد 15 كانون الثاني 2022).
تميل بعض وسائل الإعلام إلى تحليل الوضع النفسي للمشتبه فيهم في تغطيتها للجريمة وتغفل البحث في السياق الاجتماعي


لم تكتف المحاكمة الإعلامية بالتدخل بالعملية القضائية وإجراءات المحاكمة العادلة وحسب، بل تعدتها لتنتهك خصوصية الأفراد. فما الهدف من نشر فيديوهات للمشتبه فيه حسن بيه وطفله؟ أليس في ذلك مخالفة للمبادئ العامة لقانون تنظيم الإعلام المرئي والمسموع؟ إذ تنصّ المادة 33 من قانون البث التلفزيوني والإذاعي على أن: "تتحمل المؤسسات التلفزيونية والإذاعية المسؤولية المترتبة قانوناً عن أي خطأ في ممارسة نشاطها"، كما تطبّق أحكام قانون المطبوعات عليهم أيضاً، إذ تنصّ المادة 35، الفصل السابع، على أنه: "تطبّق على الجرائم المرتكبة بواسطة المؤسسات التلفزيونية والإذاعية العقوبات المنصوص عليها في قانون العقوبات العام وفي قانون المطبوعات وفي هذا القانون وسائر القوانين المرعية الإجراء، على أن تشدد هذه العقوبات وفقاً للمادة 257 من قانون العقوبات".

العمل المهني يمنع الفتنة
بعد انتشار خبر وقوع جريمة قتل الشيخ أحمد الرفاعي في عكار، انشغل البعض بجمع المعلومات وترصّد الأخبار وإطلاق الأحكام المسبقة والاستنتاجات المتسرعة في ما يتعلّق بالمتهمين والدوافع. وسرعان ما بدأت وسائل التواصل الاجتماعي ومعظم الوسائل الإعلامية بتناقل الحادثة في "إطار تحريضي وطائفي"، وتصويب اتهامات إلى أجهزة أمنية وأطراف حزبية. وقد صدر عن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي عدة بيانات، من بينها بلاغ نفت فيه ما ينقل عن تورّط عنصر من القوة الضاربة في شعبة المعلومات في هذه القضية. ففي 25 شباط الماضي، صدر بيان عن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، أوضحت فيه أن شعبة المعلومات قد تمكنت من: "العثور على سيارة المخطوف ومصادرة إحدى السيارات المستعملة في عملية الخطف وتحديد هوية الخاطفين وتوقيف أربعة أشخاص، ثلاثة منهم من أقارب المخطوف، حيث اعترف اثنان من أقاربه بتنفيذ عملية الخطف على خلفية وجود خلافات قديمة بين الطرفين بالاشتراك مع آخرين، قاموا بعدها بقتل المخطوف ورميه في إحدى مناطق الشمال". وفي اليوم التالي، صدر بيان آخر عن قوى الأمن الداخلي جاء فيه أن شعبة المعلومات "تمكنت من توقيف جميع المتورطين وعددهم 5 أشخاص، جميعهم من عائلة الرفاعي قاموا بتنفيذ عملية الخطف والقتل والدفن بعد تقسيم الأدوار في ما بينهم ضمن خطة قام رئيس بلدية القرقف الشيخ ونجله (ع. ر.) بإعدادها ميدانياً ولوجستياً منذ حوالى الشهر، بعدها تمت الاستعانة بـ3 أشقاء من أقاربهما وهم: (ع. ر.)، (ي. ر.)، (ا. ر.) لتنفيذ عملية الخطف. فيما تبيّن أن بقية الموقوفين وهم اللبنانيون: (م. م.)، (خ. ر.)، (م. ر.) نجل رئيس بلدية القرقف، (و. ب.)  ليسوا على علاقة أو علم بالجريمة، وتم إخلاء سبيلهم بناء على إشارة القضاء المختص".

أي تقرير قد يؤدي إلى التأثير على المحققين أو القضاة أو إلى ترهيب الشهود يصعّب الوصول إلى العدالة


وقد علّقت بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي على البيانات الرسمية عبر منشورات وتغريدات نسبت فيها الجريمة إلى دوافع مذهبية، واتهمت جهات سياسية بالتخطيط لخطف الشيخ وقتله وإخفاء جثته من دون الارتكاز إلي أي دليل، إلا أن العمل المهني والتقني لجهات التحقيق كان له دور فعال في احتواء تبعات الجريمة.



«ازدهار» البيئة الجنائية في لبنان
في 24 شباط الماضي صدر بلاغ عن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، أوضحت فيه أن مكتب مكافحة الاتجار بالأشخاص وحماية الآداب تمكن من إحباط عملية بيع فتاة قاصر من قِبل والدتها وزوجها للعمل في مجال الدعارة. نُشرت تقارير إعلامية عن القضية وجرى تداول مقطع فيديو لعملية التوقيف. إلا أن هذه الجريمة، كما يبدو، مرّت على وسائل الإعلام من دون أن تأخذ الحيّز الكافي من الاهتمام والمتابعة، علماً أنها تشير إلى انهيار الروابط الأخلاقية الأسرية، الرادع الأساسي للجريمة. فالمعطيات والظروف العامة «تبشّر» بازدياد الجرائم كمّاً ونوعاً، لا سيّما مع القضاء المعطّل وتدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وعدم الاستقرار السياسي. فأين دور وسائل الإعلام بتثقيف وتوعية الأفراد؟ لا سيّما وأنها تؤثر بشكل مستمر ومنهجي على آراء الناس وتخلق أنماطاً سلوكية، إذ إن الجمهور غالباً ما يبني تصوّره للجريمة بناءً على تمثيلات وسائل الإعلام.