بين الكوارث الطبيعية والكوارث البيئية، خيط تصعيد إنساني لا تُحمد نتائجه. تاريخياً، كانت الكوارث الطبيعية نادرة جداً على المستوى العالمي. وكان الإنسان الذي صُنّف بـ«البدائي» يعرف كيف يتجنّبها. أما كوارث المناخ فقد تصبح (أو قد باتت) شبه يومية. ليس الفرق بين الطبيعية وتلك البيئية، أن الثانية هي من مسؤولية الإنسان بنسب عالية جداً، بل بأنّ وتيرتها متفاقمة ومتصاعدة أيضاً. أن يشعر الإنسان بعد كلّ كارثة مناخية بأنّه هو المسؤول، شيء جديد على النفس البشرية، بعدما ظنّ طويلاً أن الكوارث من الطبيعة، هي قضاء وقدر، وهي فوق طاقة الإنسان وقدرته وإرادته. قد تصبح سيكولوجية الكوارث البيئية عندئذ غير سيكولوجية الكوارث الطبيعية. سلوكيات الإنسان وردّات فعله حيالها ستختلف كثيراً، وتأخذ اتجاهات غير متوقّعة تماماً من علم النفس التقليدي بفروعه المختلفة. أيّ اتجاهات ستأخذ؟ أي فروع جديدة يُفترض أن تُفتح؟ وماذا تتناول؟ القلق البيئي؟ الكآبة البيئية؟ الغضب البيئي؟ أم الذنب البيئي؟
هل سيتعامل علم نفس الكوارث مع كلّ نوع من أنواعها، أم سيكون هناك اتجاه شمولي على طريقة الطب العام؟ ثم كيف يمكن أن يدرس عالم النفس الأثر النفسي لتغيّر المناخ على سبيل المثال، إذا كان المريض لا يعرف مشكلته بعد ولا مسؤولياته؟
أن يكون الإنسان مسؤولاً عن الكوارث المناخية الجديدة، يعني أن يشعر بـ«عقدة ذنب»، حسب التعابير المستخدمة في علم النفس. عقدة تحمل بعداً تاريخياً، بالإضافة إلى تلك الفردية. ماذا يعني ذلك؟ هل على علم النفس أن يفتح فرعاً لعلم نفس تغيّر المناخ؟ أي تغيّر في النفس سيحصل مع تغيّر المناخ؟ هل تساهم الكوارث المناخية في إعادة الإنسان إلى رشده؟
فإذا كانت الظواهر المناخية المتطرّفة ناجمة عن سلوكيات متطرّفة عند الإنسان، مثل خرق الغلاف الأرضي والطبقات الجيولوجية للوصول إلى الوقود الأحفوري وحرق موادّ تشكّلت عبر ملايين السنين بمئتي سنة، والتنقيب عن المواد والأتربة النادرة، وخرق الفضاء وجدار الصوت، ومناطحة السحاب في أساليب البناء، ومسابقة سرعة الضوء، واستخدام المبيدات لإبادة أنواع أخرى، وتفكيك الذرة، وسدّ مجاري المياه، والتلاعب بجينات الكائنات، وابتداع ما يُسمى «الذكاء الاصطناعي»… فإذا كانت كلّ هذه السلوكيات الإنسانية المتطرّفة هي التي تسبّبت بالمظاهر المناخية المتطرّفة مثل ارتفاع درجات الحرارة والفيضانات وذوبان الجليد وزيادة التصدّعات والزلازل… فهل تساهم المشاكل النفسية الناجمة عن الكوارث الجديدة بخلق إنسان سويّ جديد، أكثر تصالحاً مع الطبيعة ونفسه؟
في الفترة الأخيرة، طُرح سؤال مركزي بدا ملحّاً في زمن الكوارث من الناحية النفسية: من عليه أن يطمئن الناس؟ هل هو عالم النفس، أم المعالج النفسي، أم عالم الجيولوجيا؟ وكيف يتصرّف الإعلام مع هذه الحالة؟ بمن يستعين؟ وكيف ينقل المعرفة عن أشياء لا يعرف عنها شيئاً؟ أسئلة حساسة، لو تمّت مناقشتها جيداً في المعاهد والجامعات ومراكز الأبحاث لما وصلنا إلى حالة الفوضى التي نعاني منها مع كلّ كارثة، عندما يحتل الشاشات المنجّمون والدجّالون ومنتحلو الصفة، بدل العلماء الذين لا يحبون الظهور؟
لا يمكن فهم الأثر النفسي للكوارث، إلا إذا عرفنا كيف يفهم الناس الكوارث وحسب معلوماتهم عنها ومصدر هذه المعلومات. من الإعلام، أم من مراكز الأبحاث والباحثين والمختصّين... وهنا تطرح إشكاليات كثيرة حول توجهات مراكز الأبحاث، والكليات المتخصّصة، ومصادر تمويل البحث العلمي، وسوق العمل وكيفية التعامل مع الموارد... ولم ينتبه الإعلام في لبنان كما حول العالم إلى أن الأبحاث (والباحثين) حول الكوارث الكبرى وكيفية فهمها قليلة جداً، وذلك لأن المعاهد التي تدرّس علم الجيولوجيا لطلابها، على سبيل المثال، تنتهي بهم اختصاصاتهم إلى قطاعات مطلوبة في السوق (وغير مستحبّة بيئياً وأخلاقياً) عند كبار المستثمرين في الحفر والصناعات الاستخراجية للوقود الأحفوري والأتربة النادرة والمياه الجوفية… ولذلك لم يتقدّم علم الزلازل كثيراً كعلم على سبيل المثال! وهذا ما يفسّر أيضاً هذه الفوضى في المعلومات والخبراء، ويطرح إشكاليات ومسؤوليات أخرى تتعلق بكيفية التمييز بين المعلومات الخاطئة والمضلّلة، وتلك التي تخلط بين الوقائع والتكهنات، بالإضافة إلى تلك المستثمرة في أي اتجاه، حتى في الكوارث؟
ليست وظيفة العلماء ومراكز الأبحاث، أو مراكز الرصد والتسجيل أن تطمئن. ليس هناك من يستطيع التنبؤ بالكوارث كالزلازل والفيضانات لناحية تعيين موعد لها! وعلى الإعلام أن يتدرّب ويدرس ويتعلم كيفية التعامل مع الكوارث وكيفية الاستعانة بالمختصّين واختيار أصحاب الخبرة. كما على العلماء، الذين يفترض أن يكونوا قد نشروا أبحاثاً كثيرة عن المواضيع التي يتحدثون عنها (بعد مراجعة الأقران)، وأن يتنبّهوا إلى ضرورة التقيّد باستخدام لغة علمية وتعابير محدّدة دون زيادة أو نقصان ودون مبالغات. ثم لماذا الافتراض أن وظيفتهم الطمأنة؟ قد تكون الكوارث فرصة لزيادة القلق عند من تسبّب بها، كلّ حسب حجمه، من أجل تصحيح المسار. وهذه قد تكون مهمة فلاسفة العلم أكثر من العلماء أنفسهم. ثم إن العلماء الحقيقيين هم الذين يتبنون تعريف «الحقيقة العلمية» بأنها «الحقيقة القابلة للنقض»، والنقد طبعاً. وهذا ما يجعلهم متحفّظين دائماً، قليلي الكلام وغير مطمئنين هم أنفسهم، وغير حازمين وجازمين، يتعطشون إلى من ينقضهم لكي يتأكدوا هم أنفسهم من حقيقة ما يقولون.
لا شك أن نقل الإعلام لمشاهد انهيار أبنية بمن فيها، يترك آثاراً نفسية مدمّرة قد تدفع إلى الاكتئاب أو الجنون والانتحار… وأننا قد نصل إلى النتيجة نفسها من ارتفاع درجات حرارة الأرض. ولكن قد يختلف المشهد بين دواعي الهرب من المنزل من أجل النجاة من زلزال، والدخول إلى المنزل من أجل التبريد والتكيّف للهرب من الحرّ، إلا أننا في النهاية، عندما نشغّل مكيّفات العالم، إذا نجحنا، سنتسبّب بكارثة أكبر. ويصبح السؤال عندها هل نحتاج إلى علم نفس التكيّف أم إلى فلسفة وجود جديدة؟!