إن حالة الزوجيّة هي موجَبٌ شرعيٌّ ناشئٌ من إرادة طرفيها الحرّة، في عقدٍ من إيجابٍ وقبول، مُعبَّرُ عنهما بنحوٍ لا يحتمل الالتباس أو التأويل، فيما هو في شأنٍ من شؤونهما، مع الخلوّ من الموانع النسبيّة والسببيّة. وبذلك تنشأُ من العقد حالة الزّوجيّة التي توجبُ على الزّوج الإمساك بالمعروف، ومن ذلك قيمومة الرجل على المرأة ومن ضمنها حقّه الحصري بإيقاع طلاقها منه حين يشاء. لكنّ قيمومة الرجل ـــ الزوج ليست ذاتيّة، بل هي ناشئة ومشروطةٌ بشرطين، عبّرت عنهما الآية الكريمة: (الرجالُ قوّامون على النساء بما آتاهم الله من فضله وبما أنفقوا من أموالهم) حيث يعني الشرط الأول المُكنة الجسديّة والماليّة على القيام بحق زوجته في الرعاية وفي الفراش والإنجاب. ويعني الشرطُ الثاني القيام بالفعل بنفقات زوجته كافة بحسب حالهما.
أما واجب الزوجة فهو فقط ما يُسمّى في اللغة الفقهيّة بـ(التمكين)، أي عدم الامتناع عن زوجها في الفراش. وقد يُضافُ إليه واجب إرضاع أطفالهما في الأيام الثلاثة الأُولى فقط بعد الولادة. أمّا العمل المنزلي فهو إن قامت به الزوجة فهو منها من باب الإحسان، ومن حقّها إن شاءت أن تُلزم زوجها بالأُجرة عليه.
الخلاصةُ من هذه المنظومة الحقوقيّة هو ما يُسمّى في لغة القرآن بـ(السّكَن) في الآية: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها) أي أن يسكنَ الزوجُ إلى زوجته، وأن تسكنَ الزوجةُ إلى زوجها سكوناً وطمأنينةً نفسيّاً، معنويّاً. وطبعاً من شرط حصول (السّكَن) المُعاملة الحسنة من كلا الطرفين للآخر.
كلُّ ذلك يُقال في الحالة التي يؤدّي فيها كلٌّ من طرفَي موجَبَ العقد بحقّه وواجبه نحو الآخَر دون تفريط.
فما الشأنُ خصوصاً إن عجز الزوجُ أو امتنع عن أداء أحد حقَّي زوجته أو كليهما؟
ثم ما الشأن إن هو وضعها خارج حالة (السّكَن)، بسلوكه العنيف مثلاً؟
فهل يحتفظ بحقّه الحصريّ في إيقاع طلاقها منه، كما يحدثُ كثيراً جداً، من أسف، في مجتمعاتنا، حيث يعمدُ بعضُ الأزواج السيئين إلى ابتزاز زوجته في ما لها عليه من حقّ، ابتغاء وضعها بين خياريَن أسوؤهما البقاء وتحمّل التنكيل. وإلا التنازل عن كلّ حقوقها الماديّة وأحياناً المعنويّة أيضاً (التنازل عن حضانة الأولاد، مثلاً)، مقابل الخلاص من سوء ما هي فيه، بإيقاعه طلاقها منه.
إن القاعدة في العقود كافة هو أنّها تضمن حقّ المُستفيد منها فيما هو من شأنها ومنافعها. وحقُّ الطلاق الحصري للزوج إنّما هو مُقابل إلزامه بنفقاتها وغيره، ممّا هو العنصر الأساسي في حالة (السّكَن) النّاجزة، إذ ليس من المعقول أن تكون كلّ أعباء الزوجيّة الماليّة على عاتق الزوج الحسن السيرة، ويكون من حق زوجته الخروج منها ساعة تشاء.
النتيجةُ بالمُقابل أنّه إن فشل الزوج في أداء حقوق زوجته عليه، بعجزه أو بامتناعه، فإنّه يخسر في المُقابل حقه الحصري بالطلاق. ويغدو من حق الزوجة أن توقع طلاق نفسها منه، أو أن تفسخ الزواج، على المسؤوليّة الكاملة للزوج.
إن خيارات الزوج تجاه زوجته هي محصورةٌ في اثنين: الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان. وعليه فعندما يعمل خارج هذين الخياريَن، بأن يُمسك زوجته بالمكروه، أو بأن يعمل على أن يُسرّحها = يُطلّقها بعد ابتزازها ما لها عليه من حقوق، فإنّه يخسر حقّه الحصريّ في الطلاق، لينتقل إلى الطرف الثاني من عقد الزوجيّة، والمُتضرّر الأساسي من السلوك النابي للطرف الآخر، وما هو إلا الزوجة.
هـنا قـد يُقالُ، إنّ كل ما يحقّ للزوجة في تلك الحالة هو أن تلجأ إلى ما قـد يُسـمّى «الحاكم الشرعي» ليُخلّصها من عـذابها، فيوقع طلاقها بنفسه شاء الزوج أم أبى. لكنّ هذا الحلّ الموهوم يأتي من خارج كلّ المفاهيم الشرعيّة الإسلاميّة الحقيقيّة.
أولاً: لأن ذلك «الحاكم الشرعي» المزعوم لا وُجود أصيلاً له. إن وظيفة الفقيه الآهل هي حصراً الفتوى في الوظيفة الشرعيّة، وفصل الخصومات بين المُتنازعين طبقاً للأُصول القضائيّة المعمول بها.
أمّا أن تدخلَ إرادته هو بوصفه «حاكماً» لتحلّ محل إرادة شخصيَن، هما الطرفان الحصريّان في عقدٍ ناجز، فيوقفُ أو يُعـدّل مفعول ومقتضيات العقد، فهذه بدعة ليس في الفكر الفقاهتي الإسلامي فقط، بل في الفكر القانوني إجمالاً.
إنّ العقد إجمالاً هو عملٌ يتمُّ بإرادتَين مُتطابقتيَن لشخصين، في أمرٍ لهما الحقُّ في التصرُّف فيه، يرمي إلى «تشريع» العلاقة بينهما في ذلك الشأن فقط. إذاً، فهو يتّصفُ بصفتَي الخصوصيّة والحصريّة.
والحقيقة أنّني بحثت طويلاً في المكتبة الفقهيّة عن تاريخ دخول هذه الصفة الغريبة، «حاكم شرعي»، في اللغة التقنيّة الفقهيّة، فلم أصِل إلى نتيجة، الأمر الذي يدلُّ قطعاً على أنّها زُجّت زجاً فيها في أوانٍ غير بعيد، لأغراضٍ ومرامٍ أُنزّه قلمي الآن عن الخوض فيها.
خلاصة القول:
إن حالة الزوجيّة هو موجَبٌ لعقدٍ تمّ بإرادة الطرفين. تتوقّفُ الحالةُ وُجوداً واستمراراً على أداء كلٍّ من الطرفين ما عليه تجاه الآخر. في هذه الحالة يكون إيقاعُ الطلاق حقاً حصريّاً للزوج.
أمّا في حالة فشل الزوج خصوصاً في أداء ما عليه لأيّ سبب، فإن الحقّ في الطلاق أو فسخ الزواج يتحوّلُ ليشملَ أيضاً الزوجة، بوصفها الطرف الثاني في أصل العقد، بحيث يحقُّ لها أن تُعلن ذلك من جانبها حسب الأُصول الشرعيّة المَرعيّة في هذا الباب.
وأمّا ترك الزوجة لمصيرها، وإخضاعها لاضطهاد وابتزاز زوجها إياها، فهو جريمةٌ موصوفة، السكوتُ عليها من أهل الرأي مُساهمةٌ ضمنيّةُ فيها، يستحقّون المؤاخذةَ عليها.
وأمّا ما سُمّي في الآونة الأخيرة بـ«طلاق الحاكم» فهو، فضلاً عن أنّه لا أساس في الفقه ولغته، مُساهمةٌ في التنكُّر لحق المرأة في تدبير حياتها وشؤونها حتى فيما هو من أبسط حقوقها الشخصيّة، باستلابه منها ومنحه لمَن ليس له أدنى علاقة بعقد الزواج وبطرفيه.