الفرق سبع ساعات. حين تكون السابعة صباحاً في واشنطن، تكون الثانية بعد الظهر في بيروت.يودّع أبناءه عند مدخل المنزل قبل ذهابهم إلى المدرسة، ثم يرتدي ثيابه الرسمية مع ربطة العنق المملّة نفسها ويتوجّه على عجل نحو محطة الباص. يمضي فيه نصف ساعة مملّة أخرى، قبل أن يغادره في محطة +21st في جادة فيرجينيا. يسير بتثاقل لثلاث دقائق نحو مقر عمله، يفكر خلالها ما إذا كان عليه التوقف في مقهى Baked and wired الشهير ببيع أطباق سريعة خالية من النشويات، أو Ching ching cha الذي تنبعث من بابه الصغير، عند طرف الشارع، رائحة القهوة والمأكولات الآسيوية الخفيفة، أو يشتري بدولارين كعكة «بايغل» (تشبه الكعكة الطرابلسية) من Bourbon Coffee.
في الأسابيع الأولى بعد تعيينه في عمله، كان يتقصّد أن يمرّ صباحاً بمتحف الفن الأميركي ليلقي نظرة على تلاميذ المدارس، ويشعر بالزهو لدى مروره بمبنى الخزانة ذي الهندسة المميّزة. الآن، لم تعد السناجب التي تقفز بين أغصان الأشجار المعمّرة على جانب الطريق تجذبه، ولا المباني الملوّنة والتاريخ المقيم في هذه البقعة. يرفع يده ليبرز البطاقة نفسها لموظف الاستقبال نفسه منذ أكثر من سبع سنوات قبل أن يأذن له بالدخول. مستخدماً البطاقة نفسها، يستقلّ المصعد إلى المكتب الصغير المخصص للبنان في مكتب شؤون الشرق الأدنى في الخارجية الأميركية.
في الداخل، ينتظره زملاؤه كي يفتح بريده الإلكتروني للاطّلاع على آخر إبداعات سفيرة بلادهم في بيروت التي خرقت كل البروتوكولات بـ«خزعبلات»، كان آخرها حفلات غناء وطبل وزمر في مقر السفارة، وموائد عامرة تُسدّد فواتيرها من أموال دافعي الضرائب الأميركيين من دون أيّ حسيب أو رقيب، لسماسرة يوصفون هنا بـ«شركاء» الولايات المتحدة. فواتير لا يصدّقها العاملون في هذا «المستودع» الضخم، لكنهم مكلّفون بالتنفيذ فقط. حتى مبدأ «نفّذ ثم اعترض» لا يسري عليهم. تحرّكهم رسائل بريدية يومية يتصرّفون وكأن مصدرها كوكب آخر. سيخبر زملاءه أن «سفيرتنا في بيروت» زارت أحد الفنانين اللبنانيين في منزله لتهنئته بإنجاب زوجته طفلة تمنّت لها أن «تسير على خطى وأمجاد» والدَيها. ينقر على مفتاح تشغيل الفيديو ليستمتع الجميع برؤية السفيرة تتمايل مع الرضيعة في فيديو شبه راقص أنتجته بالمناسبة. سفيرة تستخدم أطفالاً رُضّعاً في حملاتها الإعلانية! يتفرّق الجميع، كل إلى عمله، فيما يغرق هو في كرسيّه المملّ، قاضماً الـ«بايغل» المحشوّة برقائق السلمون. بعد بعض التثاؤب، ينطلق في العمل: لبنان.
راتبه السنوي لا يصل إلى مئة ألف دولار، لا يمكنه ادّخار سوى بضعة آلاف منها بسبب ارتفاع كلفة المعيشة في واشنطن. صحيح أنه غير قادر على التمتع بالوجبات الشهية التي تقدمها المطاعم المحيطة مثل Founding farmeres dc وFiola mare وCirca of foggy bottom، وصحيح أن الحدائق والمتاحف والنصب التذكارية الضخمة المحيطة بمكان عمله أصبحت مملّة مع مرور الوقت. لكنه قادر على تسلية نفسه طالما هو، فعلياً، موجود في مطبخ الإدارة الأميركية أو عقلها، وقادر على صناعة أي شكل من الفوضى في بلد لم يكن قد سمع به قبل بضع سنوات، ولا يعرف عنه سوى أنه «جار مزعج لصديقتنا اسرائيل، لا ينبغي أن يهدأ أو يستقرّ ما لم تطلب هي ذلك». بات يحفظ أزرار الـ«كيبورد» أمامه عن ظهر قلب. يمكنه بكبسة زرّ أن يحرّك سعر الصرف هبوطاً أو صعوداً، طالما تتحكّم إدارته بقرار المصرف المركزي اللبناني، وبكبسة أخرى أن يحرّك مجموعات تموّلها إدارته لقطع الطرق، ويمكنه بكبسة ثالثة أن يلفت الأجهزة الأمنية اللبنانية التي لا تعرف عنه شيئاً (لكنها تُموّل من إدارته) إلى مساعدة «المحتجّين» في قطع الطريق بدل فتحها وحماية المؤسسات المنتخبة بديموقراطية. هذا زرّ رابع لقطع أدوية الأمراض المزمنة بحكم خضوع رجال الأعمال الرئيسيين في البلد للتهديدات الأميركية، وزرّ خامس لمنع استجرار الكهرباء من مصر والأردن، وسادس لـ«أصدقائنا» في الداخل لعرقلة بناء معامل للكهرباء. زرّ سادس يلزم المنظمات الدولية العاملة بالحفاظ على استراتيجية تمويل بقاء النازحين بدل تمويل عودتهم. بكبسة زر سابعة يمكنه أن يعمّم عبارات يتناوب عشرات السياسيين على تردادها ببغائياً، ويستنفر بزرّ ثامن عشرات وسائل الإعلام المموّلة من إدارته للتلاعب بالرأي العام. أما أكثر ما يسلّيه فهو زر الـ«ريسايكل بين» حين تنتهي صلاحية أحد الإعلاميين أو السياسيين أو الضباط أو القضاة. بعد الانتهاء من تسلية الأزرار، يكتب موجزاً إلى مسؤوله بما أنجزه اليوم، ثم ينقر أيقونة «نتفليكس» على شاشته ليكمل المسلسل الذي كان يشاهده في منزله، في انتظار انتهاء ساعات العمل الثماني.
الموظف الذي استُبدل اسمه برقم تعريفيّ وأجر شهريّ عندما يمرّ بمحطة وقود في جادة فيرجينيا، في طريق عودته إلى محطة الباص، يتخيّل الازدحام أمام محطات الوقود في ذلك البلد البعيد الذي يتحكّم بمحطات الوقود فيه بكبسة زرّ تاسعة. الأضواء المحيطة تسبّب له صداعاً وهو يتخيّل تلك الشعوب الممنوعة من الكهرباء. إنها معدته الفارغة، يقول لنفسه، ويمضي صوب آخر الشارع قاصداً بائع الـ«هوت دوغ» المصريّ الذي لا يزال يحافظ على تسعيرته نفسها (5 دولارات) رغم ارتفاع الأسعار في هذه المنطقة بشكل جنوني. لا يعير السيّاح المغتبطين بنصب ألبرت أينشتاين البرونزي الضخم أي اهتمام. يتذكّر حين أرسل إلى زوجته، في اليوم الأول لعمله، صورته «سلفي وأينشتاين خلفي» جالساً في حضن التمثال فخوراً بنفسه ووظيفته. يعود خطوتين ويلتقط كاميرا هاتفه ليرى البؤس في ملامحه. تمرّ به أسراب من الموظفين العائدين إلى منازلهم والمراهقين الذين يقصدون الحدائق على الـ«سكوتر» الكهربائية بسبب ارتفاع أسعار مواقف السيارات وكلفة النقل. يتفقد محفظته. يتذكّر أن هناك زراً على الـ«كيبورد» أفقد أكثر من أربعة ملايين شخص مدّخراتهم في ذلك البلد الذي لا يعرف عنه شيئاً. يقول لنفسه: كنت لأفقد عقلي لو أضعت محفظتي. ماذا يفعل من فقدوا مدّخراتهم! كيف يطرد هذه الأفكار! كيف يفعل هذا كله! يتخيّل نفسه ذلك الموظف الذي رضخ يوماً لطلب إسقاط قنبلة ذرية فوق مدينة يابانية آهلة! كم قنبلة نووية يسقط يومياً عبر تلك الأزرار اللعينة. يتخيّل كيف تتناحر الطوائف بشكل قبليّ همجيّ مرعب وتتقاتل شعوب بكبستين منه للسياسيين ووسائل الإعلام. لا يعرف ما إذا كان عليه أن يضحك فعلاً!
يقطع الطريق عند إشارة السير لينتقل إلى الضفة الأخرى ليشعر بهواء نهر بوتوماك البارد يلفح وجهه. حين استقر في واشنطن، كان يتخيّل أنه سيصطحب أولاده يومياً إلى ضفة النهر، أو إلى حديقة الدستور ليلعبوا بالكرة، أو ليستمتعوا بتماثيل الفرسان والأنصبة على طول الطريق في جادة بنسلفانيا بين البيت الأبيض ومبنى الكابيتول. لكنه لم يعد يجد الحماسة لهذا كله. ينهكه الملل، أو ربما يخبّئ حقيقة مشاعره خلف عنوان الملل. في الواقع، يشعر بالاشمئزاز من نفسه: لا يفعل شيئاً لقاء هذا الأجر الزهيد سوى تخريب حياة الشعوب؛ لا يكاد ينهي جولة تخريب حتى يبدأ أخرى.
تغيّرت علاقته بنصب واشنطن الرابض في متنزّه ناشونال مول قبالة الكابيتول، وكذلك النصب التذكاري للحرب العالمية الثانية، ونصب لنكولن التاريخي المطلّ على «بوتوماك». تغيّرت علاقته ونظرته إلى لنكولن نفسه؛ وهذا الحلم كله. هو يعلم أنه وزملاءه في ذلك المبنى المملّ لا ينقذون الكوكب أو يساعدون شعوبه، وأنهم جميعهم يعلمون الحقيقة كاملة. كل منهم مجرّد زرّ يكبس أزراراً وفقاً لما يمليه البريد الإلكتروني الصباحي. زرّ في ماكينة كبيرة لا تشعر أو تفكر، ولا تؤثّر فيها أخلاق أو قيم، ويغمرها شغف دائم بالتخريب.