نجح الرئيس سعد الحريري في العودة إلى الساحة السياسية. الرسالة التي كان يودّ إيصالها، جَلجلت؛ زعيمٌ سني يغيب لعامٍ كامل ويعود ليجد كلّ شيء في مكانه: جمهورٌ يسبقه إلى ضريح والده ليهتف باسمه ويمدّ يده من خلف الحديد الفاصل علّه يتمكّن من مصافحته. عاطفةٌ ما زالت على حالها لطائفةٍ اغتيل زعيمها، فورث نجله تعاطفاً جعل منه في آنٍ واحد، الضحيّة والبطل، ثم الزعيم المهزوم. تيّارٌ يُكمل حياته الطبيعيّة ويخوض انتخابات نقابيّة هنا وجامعيّة هناك، وكأنّ لا أزمة ماليّة ألمّت به ولا حالات عصيان أثّرت عليه ولا رئيس غائب عن الأُذن والعيْن. صور مرفوعة في كلّ زقاق داخل المناطق السنيّة لزعيمٍ لم تُقلب صفحته أو يحل أحد مكانه. وقوى سياسيّة تطلب مواعيد كي يجلس مسؤولوها وموفدوها على الأريكة المقابلة للحريري، حتّى يتكلّموا فينصت، غير آبهين بالوعد الذي قطعه على الإماراتيين بأنّه لن يتفوّه بموقفٍ سياسي واحد.كلّ ما «هندسه» الحريري حينما اتّخذ قراره بزيارة بيروت لإحياء الذكرى الـ18 لاغتيال والده الرئيس رفيق الحريري طُبِّق بالشكل المُراد به تحويله إلى «عبد الناصر». زعيمٌ يحتاج إلى دراسة عن كيفيّة بقائه على قيد الحياة السياسيّة بعد سلسلة من الهزائم والقرارات الخاطئة، بالنسبة لأنصاره، ومقرّبين انقلبوا عليه وحرّضوا ضدّه، واعتكافٍ لم تنتهِ صلاحيته بعد.
مع ذلك، لا يُمكن للحريري أن «يصرف» زعامته حيث يحتاجها. هو متيقّن أن القرار السعودي سيبقى ساري المفعول وأن المعادلة باتت واضحة أمامه: طالما أن ولي العهد محمّد بن سلمان في الحكم، سيبقى الحريري خارج الحُكم! وبالتالي، فإنّه يعيش أياماً لا تنفع فيها جماهيريّة ولا مظلوميّة، ولا حتّى مقاومة لإجراءات الإبعاد التي «صدّقت» عليها المملكة كحكمٍ مُبرم.

«زوروني كل سنة مرة»
إذاً، لا أسباب موجبة تدفعه إلى العودة عن قرار الاعتكاف... هذا ما أكّده الحريري خلال اليومين الماضيين وإن كان في كلّ مرة «يُزيّنها» بمبرّر جديد: مرةً لأنّ البلد منهار، ومرّة لإبعاد تيّاره عن تحمّل مسؤولية هذا الانهيار، ومرةً لأنّه يُريد إفساح المجال أمام الجيل الشاب للانخراط في العمل السياسي... في كلّ الأحوال، فإنّ المبرّرات كلّها تؤدي إلى الطريق المسدود نفسه بالحجارة السعوديّة. رغم ذلك، يُراهن الحريري على تغيّر ما يُعيده إلى السّاحة السياسيّة. هو يُدرك أن هذا التغيّر، إن حصل، ليس في المدى المنظور، ولكنّه يُريد أن يبقي على جاهزيّة أرضيّته، في حال عدلت المملكة عن محاولة الاقتصاص منه.
كلّ ذلك يشي بأنّ التغريبة الإماراتيّة لن تنقطع، فالحريري سيبقى يُدندن لأنصاره «زوروني كل سنّة مرة». بالتالي، فإن الإشارات التي تم التقاطها خلال لقاءاته في بيت الوسط، وفُهمت على أنّها لين من السعوديّة تجاهه، ليست دقيقة وفق المتابعين الذين لم يروا في الزيارات التي قام بها وفد من تكتل «الجمهورية القوية»، موفداً من رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، ورئيس اللقاء الديموقراطي السابق وليد جنبلاط، وزيارة رئيس حزب الكتائب سامي الجميّل التي لم يتم الإعلان عنها، رسائل خارجيّة. بالنسبة لهؤلاء، فإنّ هذه جميعها «بالونات حراريّة» سرعان ما «ستنفّس»، تماماً كأجواء زيارة الحريري إلى بيروت.
وحدها زيارة وفد «الجمهوريّة القويّة» سيحتفظ بها «أبو حسام» كذكرى «جميلة» يُمكن أن تُعيد له الاعتبار. ليس تفصيلاً أن يجلس 9 نواب موفدين من جعجع قبالة الحريري وأن يزيدوا ويفيضوا، فيما الأخير يلعب دور «أبو الهول».
وتؤكد مصادر مُتابعة أنّ اللقاء بين الطرفين كان سلبياً عكس ما نقلته النائبة غادة أيوب. هي أشبه بـ«زيارة اعتذار» برّر خلالها الوفد للحريري أداء جعجع، مؤكدين أنّ الأخير لم يقم بأي عملٍ «مُعاد» لتيار المستقبل، تماماً كما لم يقم بالتحريض عليه في السعودية، مشددين على أنّ جعجع «كان حليفك وسيبقى كذلك». لكن هذه المواقف بدت وكأنّها «لا تطعم خبزاً» في بيت الوسط، إذ تشير المعلومات إلى أنّ رئيس تيّار المستقبل لم ينبس ببنت شفّة مكتفياً بهزّ رأسه، وتعامل مع الوفد ببرودة شديدة، فيما تردّد أنّ جعجع اتّصل بالحريري إلا أنّ الأخير لم يجب وتذرّع مكتبه بأنّه خارج السمع.
وتشير معلومات إلى أنّ رئيس «القوات» كان قد وضع موفديه في أجواء أن الاجتماع لن يكون جيّداً، لكنه أصر على ذهابهم، علماً أنه لم يتوقّف عن الهجوم على الحريري حتى قبل أيّامٍ من عودته إلى بيروت. ويضع متابعون إصرار جعجع على الزيارة في إطار محاولاته لكسب شارعٍ سني لا يكلّ عن الهجوم عليه، لا لرد الاعتبار للحريري.
جعجع أرسل نوابه للقاء الحريري: لم أُحرّض عليك في السعودية


أمّا اللقاء مع جنبلاط فسادته أجواء أكثر وداً، فيما تقصّد الحريري أن يكون حذراً في أجوبته وأعاد أكثر من مرة على مسامع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي بأنّه مستمر في تعليق نشاطه السياسي. الأبرز كان السؤال الذي وجهه الحريري لجنبلاط عن مبادرته لانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة قائلاً: «إذا قادر تعمل شي للوصول إلى انتخاب رئيس، لا تُقصّر»، لكنه أكد في الوقت عينه بأنّه لن يتدخّل لا من قريب ولا من بعيد في هذا الأمر.
وزار الحريري أمس رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي استبقاه إلى الغداء. وبحسب المعلومات، شدد بري على ضرورة عودة الحريري إلى الساحة السياسية، مُحاولاً الإشارة إلى أنّ دعوة السياسيين إلى طاولة حوار يكون فيها العنصر السني غير ممثل بالشكل الصحيح قد تُساعد على تسليط الضوء على دور رئيس «المستقبل» وإمكانيّة عودته، فيما لم يبد أن الحريري مقتنع بهذه النظريّة، لعلمه بأن هذا الأمر لا يقدّم ولا يؤخّر لدى السعوديّة.
وكان الحريري استقبل نواب تكتل «الاعتدال الوطني» ضم النواب: وليد البعريني، محمد سليمان، عبد العزيز الصمد، أحمد رستم، سجيع عطية وأحمد الخير، في «لقاء وجداني»، تقصّد الحريري عدم الحديث خلاله في الشؤون السياسية، وفق مصادر نيابية، بل تعمّق أكثر في الوضع المعيشي والاجتماعي لمنطقة الشمال، مشدّداً أمام الموجودين على أنّه يتمنّى أن يغير الواقع المأساوي الذي يغرق به لبنان، «لكنني غير قادر على ذلك، وأنا مستمر بقرار تعليق عملي السياسي إلى حين تغيّر هذا الوضع».
وحتى مساء أمس، لم يتأكد في بيت الوسط ما إذا كان الحريري سيستقبل رؤساء الحكومات السابقين أو رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي.