تصعب التضحية في لحظات المواجهة الحقيقية مع الموت. من دون وعي، قد تنتصر مقولة: «اللهمّ نفسي» عند وقوع الكوارث، فـ«تنفد بريشك» مخلّفاً وراءك أماً، أباً، شقيقاً، شقيقةً، ابناً، ابنةً... فماذا لو كنت أسيراً؟ هل سيسمع السجان هزّ القضبان بين يديك ويرأف بصوتك مستنجداً، ليمنحك الحياة بينما يسابق هو الموت؟ وماذا لو كان السّجان قدماً عصية على الحركة؟ أو عيناً لا ترى هول ما يحدث ولا تأخذ بيدك إلى برّ الأمان؟ أو صوت يخونك فلا يصرخ: أنا هنا تحت الدمار؟منذ فجر الإثنين الماضي تهتزّ الأرض تحت أقدام اللبنانيين. وبين هزّات قوية ترعب من يشعر بها، وأخرى ارتدادية تجعل نسيانها أمراً مستحيلاً، يعيش الأشخاص المعوقون، ولا سيما ذوي الإعاقة الحركية، هلعاً مضاعفاً. خوف من أن يعيشوا زلزالاً مماثلاً للزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، خاصة بعدما خضعوا للتجربة بجرعة مخفّفة جداً، وأدركوا أنهم متروكون لعجزهم، مهما صارعوا إعاقتهم سيستسلمون أخيراً للقدر وقضاء الله وكلمة الطبيعة. مثل فلاشات سريعة، يحضر الزلزال أمامهم، مرة يهرب الجميع ويبقون في مكانهم، ومرة يرفض أحدهم تركهم فيتسببون بهلاكه. وكلا المشهدين يزلزل فؤادهم.

ننام بالجهاز
كانت الساعة الثالثة و18 دقيقة فجر الإثنين عندما استيقظت فاطمة على اهتزاز السرير في مشهد أعادها إلى الهزّة الأرضية التي حصلت عام 1997، «مسلسل الرعب ثانية، الإحساس ذاته، لكن القلق هذه المرة أكبر لأنه يشمل مصير ابنتين لم تكونا قد ولدتا عام 1997، عندما هرب كلّ من في البناء وبقينا أنا وزوجي مكاننا نتوسل رحمة الله، لأننا نحمل شلل الأطفال الذي يكبّل حركتنا».
لو هُدّم البناء، لا قدر الله، حيث تقطن فاطمة وعائلتها في الشويفات في الطابق الأول، خلال الهزة الأخيرة «لفعلنا الشيء ذاته: لا شيء». تتأسّف فاطمة لأن «الوقت الذي يستغرقه استيعاب الكارثة وارتداء جهاز الحركة ثم الهرب أطول بكثير من الفرصة التي يمنحها الزلزال للنجاة منه». لذلك، نامت وزوجها، خلال اليومين اللذين تليا الهزة، بالجهاز استعداداً للهرب، و«ما عاد ذلك ممكناً بعدها، لأن الجهاز لم يدعنا ننام، إذ نحتاج إلى قلبه كلما تقلبنا في نومنا، عدا عن حزّ الحديد فيه بجلدنا».

إلى ابنتَي: اتركانا واهربا
لا يخاف أمين، زوج فاطمة، على روحه إذا تكرّرت الهزّة بدرجة أعلى. إيمانه أقوى من ضعفه وعجزه. «صحيح أن قدراتي الحركية تبقى عاجزة أمام انهيار المبنى، لكنني أؤمن أن هذه الأرض لله هو يهزّها وهو يهدّئها، وأنّ الموت حق». الهاجس الوحيد الذي يطارده يرتبط بعائلته، زوجته التي «سيسبقها الزمن قبل أن ترتدي الجهاز وتهرب»، وابنتاه (18 و20 عاماً) اللتان «ستبقيان إلى جانبنا وتضحّيان بحياتهما من أجلنا، فنهلك جميعاً». بعد خروجهم من الصدمة نبّه أمين ابنتيه: «مهما حصل اتركانا واهربا». فردّت عليه الكبيرة، «أم أبيها وأم أمها»، كما يلقباها: «معاذ الله، لا أترككما ولو احتجت أن أحملكما على ظهري». وقالت الثانية: «إن كنا سننجو بعدكما، فلنمت معكما».
نامت فاطمة وزوجها خلال اليومين اللذين تليا الهزة بجهاز الحركة استعداداً للهرب


بقيت في سريري، وحدي، عاجزة
إذا كان هناك من يسأل عن فاطمة وأمين عندما يحتاجان إلى مساعدة، فلا معين لريتا التي تقطن وحدها في منزلها في سن الفيل لأن منزل عائلتها لا يتناسب مع إعاقتها الحركية. حتى الجيران لم يطرقوا بابها بعدما هدأت الأرض من هزّتها، تماماً كما تركوها في الرابع من آب ولم يكشفوا على منزلها الذي تأثر بانفجار مرفأ بيروت. استعادت ريتا هول الانفجار عندما شعرت باهتزاز السرير فجر الإثنين، وسمعت صوت الحديد يطقطق في البناء المتهالك بعد إصابته في الانفجار ذاته.
وعندما أدركت أن ما يحصل هو هزّة أرضية، «بقيت في سريري، ذلك أن القيام منه يستغرق وقتاً طويلاً فأنا، عدا عن فقداني القدرة على تحريك قدمي، لا أستطيع رفع يدي لذلك أستخدم فمي لممارسة أعمالي». تنقل ريتا كيف قضت 40 ثانية من الرعب والعجز وحدها، «أناجي ربي لعلّه يسمع دعائي، وأصلي، قبل أن أسلّمه روحي». عشرات الأسئلة نخرت ذهنها خلال الهزة وما تلاها، خاصة عندما شاهدت الدمار الذي خلفه الزلزال في تركيا وسوريا، «هل سأنجو من الزلزال وأنا بالكاد أستطيع أن أرفع عني الغطاء؟ ولو علقت تحت الدمار، كيف سأتحرك، وأنا عندما أقع أنتظر من ينتشلني؟ وإذا متّ من سيعلم بموتي؟».

لو نزلت إلى الطريق أضيع
«لو أنني أملك حاسة النظر لهرعت إلى الشارع في لحظات الكوارث، واحتميت في مساحات آمنة بعيدة عن الأبنية»، تقول نويل. صحيح أنها تعيش مع العاملة المنزلية التي استقدمتها منذ قرابة الشهر من كينيا، «لكن لا يمكنني الاتكال عليها عندما تقع الواقعة لأنها لا تجيد التصرف في مواقف كهذه». أدركت نويل ذلك بعد الهزة الإثنين الماضي، «كانت العاملة خائفة جداً ولا تفهم هذا الشيء الغريب الذي تعيشه لأول مرة».
ظنّت نويل أنها تتخيل اهتزاز السرير، ذلك أن رؤية الأشياء تهتز من حولها خارج قدرتها، حتى علا صوت خزانة الملابس والثريات المعلقة، ففهمت أنه «زلزال». عاشت الخوف مرتين بعدما سمعت الناس تخلي منازلها، فهرعت لأخذ مفتاح المنزل، قبل أن تعدل عن الفكرة «لإيماني أنه لو نزلت إلى الطريق أضيع وحدي، لا أعرف أي الأماكن آمنة لأحتمي فيها».