«هاتاي تعني بابا» هكذا كنت أمزح عندما أسمع باسم ذلك المكان من كثرة ما حدّثنا عنه والدنا حيث «أيام العزّ» التي عاشها في تركيا قبل أن يستقرّ في لبنان ويحصل على الجنسيّة. في هاتاي شارع باسم والده، فيه قهوة شهيرة ومتاجر تابعة للعائلة وبيته الذي بناه بنفسه حجراً على حجر. و«طرطوس تعني ماما» يقول أخي ممازحاً كلّما أراد تذكير أمّي بأنها سورية، لن تحصل يوماً على الجنسية اللبنانية رغم أنها تعيش في هذا البلد منذ ثلاثين عاماً.
وأنا، ابنة الثلاثة أوطان، لم أنم منذ ثلاث ليال.
خمسة وعشرون عاماً لم أشعر بها بالانتماء الحقيقي لجذوري التركية كما أشعر اليوم. البلد الذي لم أزره يوماً، لم أتعلّق به مقتنعة بأنّ «البعيد عن العين بعيد عن القلب»، رغم أن أبي زرع في خيالنا صوراً عن بيت جدي، الذي سيأخذنا يوماً لنزوره في تركيا، ويعرّفنا على كلّ التفاصيل التي لا يملّ من الحديث عنها. مثلاً المنزل ذو الطابقين والحديقة التي كانت جدتي وعماتي يعتنين بها، الحديقة التي كانت شاهدة على ضحكاتهم وسهراتهم المتأخرة. البعيد عن العين ليس بعيداً عن القلب. البعيد عن العين قريب من الفؤاد في الملمّات والفواجع على الأقل. وكما قال العرب يوماً، «الدم بحنّ». منذ وقوع الزلزال، فهمت معنى أن تُفجع على عائلتك الكبيرة التي لم تلتق بها يوماً.
المشاعر نفسها تسري على سوريا. فرغم أنّي أعتبرها وطني اقتناعاً منّي بمقولة صديقتي بأنّ لكلّ إنسان وطنين، وطنه الأول وسوريا، إلا أنّها بالصدفة أيضاً وطني فعلاً بما أنّها وطن أمي، وفيها بيت جدي «أهل أمي»، الذين ما زالوا هناك. في طرطوس التي لم تشهد دماراً واسعاً، إلا أنها تأثرت كثيراً بالزلزال.
أنا، ابنة الثلاثة أوطان، لم أنم منذ ثلاث ليال.
وفي الليلة الماضية، بدأت أسأل نفسي عن سبب انهياري، ودموعي التي لا تتوقف، ونحيبي على المشاهد التي تتناقلها الوسائل الإعلامية لضحايا الزلزال. لوهلة، اعتقدت وأقنعت نفسي بأنني خائفة أن يصيب لبنان المصاب ذاته. لكنّ الكارثة التي ألمّت بأوطاني الثلاثة، أربكتني، ودفعتني إلى اكتشاف أسباب أخرى لوجعي، تتجاوز التضامن الإنساني الذي شعر به كلّ من شاهد ويشاهد المأساة. لكني أعرف أكثر منهم. تصلني الأخبار مباشرة من الناجين، يحكون بأصوات مرتجفة عما عاشوه. قبل اتصالاتهم، جاء اتصال شقيقتي المتزوجة فجراً تخبرني فيه أن كلّ شيء في «هاتاي» أصبح رماداً. لم أستوعب الصدمة. حتى إنّي اضطررت إلى الكذب عليها، والقول إني أخبرت والدنا عما جرى، وإنه يحاول الاتصال بأخواته والأهل هناك. ربما كذبت لأنني أعرف ما يعنيه ذلك لأبي جيداً. حبل الكذب قصير، أعرف ذلك، لكن عوضاً عن إخباره الساعة الخامسة فجراً، أجّلت الخبر حتى الثانية ظهراً. كنت محتارة كيف سأقولها له. عندما نكتب الأخبار كصحافيين نعلم كيف نبدأ وكيف ننتهي، مستندين إلى الأسئلة الخمسة الواجبة في صياغة الخبر، لكني لم أعرف كيف أخبر والدي الذي اعتقد أنّه زلزال خفيف ولم يكن يعي حجم الدمار الذي خلّفه ذلك الزلزال اللعين.
«بابا كل شي بهاتاي راح تدمّر، وعمّاتي يمكن ماتوا بالزلزال» هكذا فجّرت القنبلة التي كانت عالقة في قلبي وعلى طرف لساني. صحيح أني تدرّبت تلك الليلة على أن أستخدم أقلّ العبارات حزناً وبؤساً، لكنني أخفقت، فجاء الخبر بتلك الحدة القاسية.
حاول والدي جاهداً التواصل مع أيّ أحد. ينتقل بين رقم وآخر باتصالات هاتفية فاشلة، فشبكة الإرسال تعطلت إثر الزلزال. ست ساعات عاش خلالها والدي حالة إنكار، كان يتمتم خلالها بأشياء غريبة وبصوت متهدّج. ترجمت ما قاله: «ارتحتوا؟؟... كل شي راح... يالله ما ضلّ شي آخدكن تشوفوه هونيك».
ثم، بشكل هستيري راح يضحك. نوبة الضحك تلك التي تصيب المرء أثناء المواقف الصعبة التي لا يستطيع التعبير عنها، فيخرج الضحك في محاولة لتقليل التوتر. هكذا قرأت مرة في إحدى الدراسات العلمية عندما أردت معرفة سبب الضحك الذي يراودنا بمثل تلك المواقف.
بُعيد استيعاب والدي الفاجعة، ووصول الصور والفيديوات من الأقارب لبيتنا، استطعنا الاطمئنان على عمّاتي، اللواتي نجون لأنهنّ كنّ يسهرن في الحديقة التي لطالما وصفها لنا والدي. لم نستطع أن نحكي معهنّ حتى الآن، لأنهنّ لا يزلن في حالة صدمة، وإحداهنّ في المستشفى، وبقية الأقارب عالقون تحت الأنقاض.
«كان كلّ شيء طبيعياً، والهدوء يخيّم على المكان، فجأة كلّ شيء صار بالأرض وعماتكم الله تلطّف فيهم كانوا برّا البيت» يقول أحد الأقارب الناجين. يضيف باكياً «اعتقدنا أنه يوم القيامة. لم يمرّ علينا زلزال بهذا الدمار ولم نشهد مثيلاً لما حلّ بنا هذه المرة». قريبنا، عندما كان يخبرنا ما حصل، كان جالساً على حطام منزله منتظراً انتشال بقية أفراد عائلته من تحت الأنقاض.
في طرطوس، لا ضحايا حتى الآن. إلا أن خالي يؤكد أنّهم لم يعرفوا النوم منذ ليلتين، فالخوف والقلق كانا يأكلانهم.
«عم نموت ميت موتة كلّ يوم. حرب وجوع وهلّق الزلزال قضى علينا. يمكن نحن متنا من أول يوم بالحرب، مات كلّ شي فينا...». هكذا يختم خالي اتصاله معنا. تسقط أمي باكية، فهي لم تستطع أن تكون يوم وفاة والدتها هناك. أمي لا تستطيع حتى مواساتهم. «من عاش كل سنوات الحصار والحرب والدمار والفقر والجوع، ماذا ستقولين له كي يهدأ؟» تقول، وتنهي حديثها بألم قائلة «حبيبتي يا سوريا»، تنظر إلى والدي وكأن عينيها تقولان له إن وعده لنا بزيارة تركيا أصبح من سابع المستحيلات، بعدما صار كلّ ما وصفه والدي لنا، على مرّ كلّ السنوات، ركاماً وحجارة.