تضجّ مواقع التواصل الاجتماعي، منذ منتصف الأسبوع الماضي، بخبر مرض الشيخ أكرم بركات ويتفاعل المتابعون مع الأمر بطريقة لافتة للنظر، ضابطةً خلجات القلوب على قلب الشيخ. لهفة الدعاء والتأثر والتوسّل لشفائه تشير إلى أنّ المريض فرد محبوب من كلّ عائلة. فمن هو هذا الرجل؟منذ أسبوع، باتت نهارات عديدين بمحاولات الاطمئنان على صحة الشيخ أكرم بركات. يتتبّع محبّوه وضعه الصحي على مختلف تطبيقات التواصل، وينشرون صوره المرفقة بخبر إصابته بوعكة صحية، وبمشاعر إنسانية رقيقة ترجو الله وتدعوه أن يكون سالماً معافى. فيض من الرسائل العفوية يكتبها محبّو الرجل للتأكيد على علاقتهم الخاصة به، وكأنّه موجود في كلّ بيت، مع وصايا بقراءة آيات قرآنيّة معيّنة، وإقامة الصلوات وتلاوة الأدعية. وبعد أيام ساد فيها القلق، حرصت عائلته على طمأنة المحبّين جميعاً بنشر رسالة تفيد بأنّ «الشيخ يتابع علاجاً طويلاً، سينتهي على خير إن شاء الله، داعين الناس للصبر والدعاء»، خصوصاً أن الأمر لم يخلُ من نشر شائعات لا مكان لها من الصّحة.

الأستاذ المربّي
لم يطلب الأستاذ الحوزوي والجامعي والمربّي، الشيخ أكرم بركات، من أحد نشر خبر مرضه، ولا يوجد إذن مسبق منه قبل كتابة هذه الكلمات، فمشاعر الحبّ والعواطف والتعلّق المزروعة في قلوب محبّيه ومريديه لا تحتاج إلى هذه «الموافقات» أو «الإجراءات». نحن محبّيه، ندرك تماماً أنّه الأبعد بيننا عن الأضواء، والرّافض لعالم الشهرة الذي لم يُغرِه يوماً، رغم أنّه النجم الأبرز على ساحة التبليغ الديني، وصاحب تجربة رائدة في مخاطبة النّاس بطريقة يفهمونها، ولا يملّون منها، وهو «الحنون الذي يطول العناق الأول معه بعد الغياب، وصاحب البال الطويل في النقاشات، والوجه البشوش، الذي لم يعبس يوماً في وجه أعتى الأسئلة، حتى تلك المشكّكة في الدين»، وجالس أصحاب المشارب الدينية والفلسفية مطوّلاً من دون ملل.

إمام المسجد
في مقابل المحبّين والمريدين، يتفرّج أشخاص آخرون على ما يجري متسائلين ومحاولين معرفة «من هو الشيخ أكرم بركات؟»، و«لماذا يدعو له الناس بالشّفاء؟ من أين يعرفونه؟». الإجابة ليست صعبة على المحبّين، وهو السّاكن في قلوبهم، فهو أولاً إمام مسجد القائم الكائن في شارع صفير في الضاحية الجنوبية، والذي يباهي أهل المنطقة بـ«أنّهم جيران الشيخ أكرم والمسجد الأول الذي بناه وحزب الله في لبنان»، وافتتحه الأمين العام السيد حسن نصرالله شخصياً قبل 25 سنة، في عام 1998، وبعد نجاح تجربة الشيخ فيه، انتقل بناء المجمعات المسجدية إلى بقية المناطق.
هذا في الشق العام، أما في الشق الخاص، فلكلّ شخص اقترب منه حكاية يقدّم فيها الشيخ بطريقته، خصوصاً إذا كان قد تعرّف إليه في المكان الذي أحبّه إلى درجة الذوبان فيه. خلف محراب المسجد، وفي مكتب مخصّص لاستقبال الناس، مئات المشكلات التي حُلّت بحضوره قبل كلماته، ففي أحد الأيام دخل المكتب زوجان يرغبان بالطلاق، ولا يطيق أحدهما الآخر. طلب منهما أن يقول كلّ منهما ما يحبّه في شريكه قبل سماع المشكلة، فعلا وخرجا من عنده والحبّ الأول ثالثهما. وفي موقف آخر، أقنع أخاً أكل أخوه ماله بـ«المسامحة عند المقدرة، وشراء حبّ أخيه بالمبلغ المرقوم، وعدم المطالبة به».
صحيح أنّ الشيخ خرج من المسجد في السّنوات الأخيرة، ولكننا نعرف أنّه لم يخرج منه، كيف ذلك وهو بانيه والمشرف عليه متراً متراً، وجامع التبرّعات له من مشارق الأرض ومغاربها. سلاسة الطرح الديني لدى الشيخ، وتبسيط المسائل المرتبطة به جعلا مريديه يحفظون مواعيد أنشطته ويسعون إليه من كلّ مكان، ولا مبالغة عندما نقول بأنّ الآلاف كانوا يحتشدون في المسجد بين الطوابق والأدراج، وصولاً إلى السّطوح، إحياءً لمناسبات دينية في ليالي عاشوراء، أو شهر رمضان، يستمعون بإنصات منقطع النظير لخطب الشيخ أكرم وتوجيهاته، إذ كان يعمّ الصمت كلّما صعد إلى المنبر بما أنّه يخاطب النّاس بلغةٍ يفهمونها، من دون تعقيد أو فلسفة، يهوّن عليهم المشكلات، ويقدّم الدين على أنّه الحلّ اليسير بعدما أخرجه من القمقم، فنزل على قلوبهم كالبلسم.
قضى الشيخ أكرم ربع قرن في مسجد القائم، قدّم خلاله تجربةً رائدةً في إمامة الناس. وعلى عكس العادة في معظم المساجد، كان يعطي وقتاً للأطفال في المسجد، ويدعو المصلّين لإحضار أولادهم معهم من دون أن يكون ضجيجهم في الخلفية مزعجاً له أثناء المحاضرات، فهؤلاء الأطفال أصبحوا في ما بعد شباباً يتقدّمون الصفوف الأمامية في الصلاة، ويعقد معهم حلقات بحث بشكل شبه يومي. يتفقّد الحضور يومياً ويسأل عن الغائبين ليطمئنّ عليهم لاحقاً، يوجّه ويرشد ويتكلّم بتواضع وحبّ ومشاعر أبويّة تترك أثراً كبيراً في شباب تحوّل خلال السّنوات الـ25 من حال إلى حال. هذه الحلقات خرّجت أولاً شهداء وقادة في المقاومة، وشباباً فاعلاً في مختلف ميادين الحياة، منهم اليوم الطبيب والمهندس والأستاذ الجامعي والأب الصالح، وكلّهم يقول «أبانا الشيخ»، وهو الذي كان يتباهى بالشباب أمام الناس ويقول «هؤلاء أبنائي».

وفي قاعات الجامعة
كما في المسجد، لم يترك الشّباب في الجامعة أيضاً. لا يُنسى مشهد القاعات في كليّة الآداب- الفرع الخامس التي تغصّ بالطلاب، لا لحضور المقرّر، فأغلبهم غير مسجّلين في المادة التي يدرّسها، بل لسماع محاضراته. ويمتد حضوره على السّاحة الجامعية بين الشّباب، وهو المتنقّل الدائم بين مختلف الكليّات لسماع مشاكل الشباب والتكلم معهم فيها، إذ يكفي وجود اسمه على نصّ الدعوة لتمتلئ القاعة قبل وصوله بساعات، ثمّ تحتجزه قلوب الطلاب المحبّين لساعات أطول بين أروقة الكلّيات.
على عكس العادة في المساجد كان يقدّم الشباب إلى الصفوف الأمامية في الصلاة

في إحدى المحاضرات في الجامعة الأميركية، تنقّل الحضور بين أكثر من قاعة، إذ لم تنقطع الأسئلة يومها، والصفوف محجوزة للدروس. يستشير الطلاب فيزرع فيهم الثقة، ويشجّعهم على المبادرة، مصوّباً ما يراه خطأ بلطف منقطع النظير. الشيخ أكرم لم ينقل المعلومة بشكل عادي، بل كان يبسّطها أو يعقّدها على قدر المخاطب أمامه، ففي حلقات البحث الحوزوية المتقدّمة كان أستاذاً عميقاً، محصّلاً للعلوم، وفي الجامعة يمنهج التعليم والطلاب، يصنع منهم مفكّرين، ويزرع فيهم الثقة، ويدفعهم صوب البحث والتفكير العلميّين، ويخاطبهم بلغةٍ يفهمونها. وعلى الرغم من صخب الحضور المسجدي، كان حريصاً على «راحة جيران المسجد»، إذ لم ترفع مكبّرات المسجد الصوت إلى الخارج سوى في الأذان، بناءً على توصياته.

وفي الحوزة
بدأ التدريس الحوزوي باكراً جداً، إذ لم يكن عمره يتجاوز الـ17 سنة عندما درّس في عام 1985 المقرّر الأول في حوزة الرسول الأكرم، واستمرّ من دون انقطاع منذ ذلك الحين، «ما جعل الطلاب الحوزويين يتمنّون التتلمذ على يديه» كما يقول عارفوه. أمر لم يزده إلّا تواضعاً وقرباً من الطلاب والنّاس. لم يقل يوماً إنّه مجتهد، رغم يقين معظم المقرّبين منه من الأمر، فهو صاحب حضور علمي لا يُنكر، إلا أنّه أزال كلّ الألقاب السّابقة لاسمه من دكتور وشيخ وسماحة وفضيلة، ووقّع مؤلّفاته بـ«أكرم بركات».
في الفترة الأخيرة، قبل المرض، «كان مثابراً إلى حدّ قتل النفس»، كعادته، يُخلص في عمله بتفانٍ وبصيرةٍ قلّ نظيرهما، يؤرّخ تجربته كلّها ويؤرشفها، وينشرها بشكل مجاني على صفحات موقعه. لم يسعَ إلى سلطة، أو نجومية، بل طوى الصفحة الماضية كلّها، ولم يعبّر عن اشتياق حتى لما فات، بل في اللحظة التي شعر فيها أنّه نفّذ كلّ ما هو مطلوب منه مضى إلى أمور أخرى.
أقول لك أخيراً يا أستاذي، إنّنا ننتظر مرور هذه الوعكة الصحية لتعود إلينا، ففي هذه اللحظات نشعر بالفقد الكبير، ونطمع في تحصيل المزيد منك، وندعو الله بدعائك إياه في نهاية كلّ صلاة كنت تؤمّها في مسجد القائم: «يا لطيفُ ارحمْ عبدَك الضعيف، يا خَفيّ الألطاف نجِّنا برحمتك ممّا نحذر ونخاف»، ونحن نخاف فقدك.