لم يسمح الحراك النسوي في لبنان بتناسي ليندا مطر (1925- 2023)، برغم اعتزالها الظهور العلني منذ ثلاث سنوات بحكم التقدّم بالعمر، إذ إن تجربة أيقونة «العمل النسائي اللبناني الهادف إلى تحقيق المساواة بين الجنسين»، كما وصفها بيان «لجنة حقوق المرأة اللبنانية»، لم تزل تفرض نفسها على التجارب النسوية التي جاءت من بعدها، سواء كناشطات أو كجمعيات وهيئات. على نحو تلقائي، ينحو كثر إلى المقارنة بين النسويات الجدد وبين خطاب مطر وأدائها قبل ترؤسها للجنة محلياً وعالمياً، وخلاله وبعده، كمنسّقة للاتحاد النسائي الديموقراطي العالمي. برغم كلاسيكية الأدوات وضيق الإمكانات قبل زمن «السوشيال ميديا» وتمويل السفارات، تتفوّق مطر على معظم وريثاتها. وها هو موتها كما حياتها، يفرض تقييماً ونقداً للحركة النسوية. فبرغم الألقاب والتكريمات والأوسمة والإنجازات؛ أبرزها منح المرأة حق الترشح والترشيح عام 1953، خسرت مطر في الانتخابات النيابية عام 1996 عند ترشحها مستقلة في بيروت. ظنّت بأن فوزها مضمون بأصوات النساء اللواتي ناضلن من أجلهنّ. لكنها كانت مخطئة!
ابنة حيّ الخندق الغميق المجاور لوسط بيروت، لم تسبر النسوية من الصالونات واقتناص فرص التمويل والشاشات. صعدت سلّم النضال بعدما أجبرت بسبب الضيق على ترك المدرسة وعملت وهي طفلة في معمل الحرير والجوارب، قبل انتسابها كناشطة إلى لجنة حقوق المرأة في بداية الخمسينيات.
في بيروت، كانت مطر ومن خلفها اللجنة، ملجأ للباحثات عن الحرية المحصّنة بالاستقلال المادي والمعرفة بالحقوق المدنية والاجتماعية والسياسية. طوال سنواتها الثماني والتسعين، شكّلت الحضن الآمن والمؤتمن الذي يجمع بين المساواة بين الجنسين، وبين القيم المجتمعية والعقيدة الوطنية. التصاق اللجنة بالحزب الشيوعي اللبناني طوال عقود، كان في أحيان كثيرة ضامناً لتلك الثلاثية.
وفيقة إبراهيم كانت واحدة من النسويات اللواتي تربّين على يدَي مطر في اللجنة، حتى صارت مسؤولة العلاقات الخارجية فيها وفي الاتحاد النسائي الديموقراطي العالمي. تقول، في حديثها إلى «الأخبار»، إن معلّمتها كانت «أكثر بكثير من جمعية نسائية. رائدة في النضال النسوي والوطني، بلغت محبتها وشهرتها العالم أجمع». ولفتت إلى أن الاتحاد الذي شغلت منصب منسّقته الإقليمية للمنطقة العربية لـ 40 سنة، كان يكرّمها في كلّ دورة، وآخرها الدورة الأخيرة التي حضرتها قبل نحو سبع سنوات في كوبا. برغم استقالتها من رئاسة لجنة «حقوق المرأة» عام 1996 بعد 28 عاماً، لم تتمكن ناشطات اللجنة من فصل تلك الأيقونة عن مهامهنّ اليومية والاستراتيجية. في كلّ مؤتمر، كانت الأساس في التحضير والإشراف، وآخرها قبل ثلاث سنوات.
الزمن قلّص من حركة مطر. فاضطرّت إلى ملازمة منزلها من دون أن تفقد وعيها ومقتنيات الإرث والذاكرة. تحت رعاية نجلها طبيب العظم رافي بانجاريان، هنئت بآخر أيامها حتى أصيبت بوعكة طالت رئتيها. نقلت إلى مستشفى الحياة، وفيها فارقت الحياة ليل الخميس الماضي. وكما ألغت في حياتها التقسيمات اللبنانية الضيّقة بزواجها بالأرمني بيزانت بانجاريان قبل 81 عاماً، أوصت بأن تدفن معه في مدافن الأرمن الأرثوذكس في برج حمود في مأتم يقام اليوم عند الساعة الثالثة عصراً. وتقبل التعازي غداً بين الساعة الحادية عشرة قبل الظهر والسادسة مساءً في نادي خريجي الجامعة الأميركية في الوردية – الحمرا.