لقد ولدت أم الفرزدق فاجرًا
فجاءت بوزواز قصير القوائم
يوصل حبليه إذا جن ليله
ليرقى إلى جاراته بالسلالم
أتيت حدود الله مذ أنت يافع
وشبت فما ينهال شيب اللهازم
* جرير في هجاء الفرزدق


دَعاني جَريرُ بنُ المُراغَةِ بَعدَما
لَعِبنَ بِنَجدٍ وَالمَلا كُلَّ مَلعَبِ
فَقُلتُ لَهُ دَعني وَتَيماً فَإِنَّني
وَأُمِّكَ قَد جَرَّبتُ ما لَم تُجَرِّبِ
* الفرزدق في هجاء جرير


لسانك قطعة محجالي
ولساني قطعة بولاد
نِعطيتك فكري وبالي
ما بتهدّي بها لِّبلاد
بونا الخوري حكالي
عصرية عيد الميلاد
قلي إنو (...)
أنجس من كلب أزعر
الخوري عالم روحاني
لا بيسب ولا بيغتاب
عرف القاصي والداني
إنك دجّال وكذّاب
هلّي بيسب الثاني
أنجس من كلِّ الكلاب
مبتعرف إنو لساني
أمضى من السيف البتار
* جزء من مناظرة زجلية بين داوود كرم ومحمود حدّاثا في القرن التاسع عشر


المثال الشعري الأول يظهر أن إقحام الأمّ في الهجاء تقليد قديم في الأمّة حتى بين من جالس الخلفاء والأئمة. المثال الثاني زجل من جبل عامل يظهر أن فن الهجاء المحلّي، كما التعانق والتعايش بين الطوائف، أعتق من الكهرباء في بلادنا. طبعاً تقنيات التواصل ونقل الصوت والصورة تطوّرت كثيراً بفضل الكهرباء والآلات التي تعتاش على طاقتها والتي باتت لا تنطفئ مع انطفاء التيار الكهربائي بفضل خزانات الطاقة الكهربائية المسماة بطاريات، والتي تطوّر معدنها إلى أن رسى في عهدنا هذا على مادة الليثيوم. الليثيوم قصة كبيرة وأصبح مخزن انقلابات إلى جانب الطاقة الكهربائية، إذ تخشى الإمبراطورية الأميركية من أن تقطع المادة عنها شعوب جنوب القارة الغني بها، أو أن يطلبوا ثمناً عادلاً مقابل ثروتهم، ورأينا حتى الآن انقلابين في بوليفيا والبيرو والحبل عالجرار. منذ أيام خرجت قائدة القيادة الجنوبية للقوات المسلّحة الأميركية لورا ريتشاردسون وشرحت بحماسة أهمية المنطقة لبلادها من غويانا إلى فنزويلا إلى «مثلث الليثيوم (الأرجنتين - بوليفيا - تشيلي) الذي تحتاجه التكنولوجيا اليوم ويحتوي على 60% من الليثيوم العالمي». هنا لا شكّ أن الجنرالة تستحق الهجاء بكافة لغات الشعوب المنهوبة، لا بل من الواجب هجاؤها وبكافة الأساليب.
من أساليب الهجاء، الهجاء الساخر، والذي تمسرح وتتلفز في الكوميديا. والكوميديا الهجائية ليست كنيسة موّحدة لها فاتيكانها وباباها يحدّدان قبلتها وصراطها المستقيم، بل تتعدّد طوائفها ومدارسها ولكل منها أهدافها ومستهدَفوها. هناك مدرسة شارلي إيبدو على سبيل المثال، التي أعلن كثرٌ في إعلامنا الانتماء إليها خلال حملة «جو سوي شارلي» التضامنية عندما تعرّضت المجلة لهجوم إرهابي. أسلوب شارلي هو السخرية والتهكّم من «الآخر» الأضعف، الآخر الذي لا يشبهنا، الآخر الذي لا يشكّل خطراً علينا لأنّه لا يستطيع الردّ بالمثل نظراً لموازين القوى الإعلامية القائمة، ولن يجرؤ أن يرد بأسلوب آخر، كالعنف مثلا، لأن حرية تعبير شارلي حق مصان في قوانين الجمهورية الفرنسية الخامسة، وتكرّس لصونها كافة أجهزتها الأمنية والقضائية. لذلك كانت الصدمة جرّاء الاعتداء العنفي الذي طاول مكاتب المجلة الساخرة وصحافييها في الدائرة الباريسية الحادية عشرة. الصدمة ليست بسبب العنف أو الإرهاب. الإرهاب مقبول في الإعلام الطاغي (عالمياً وعربياً للأسف) في سياقات معيّنة، كقتل الفلسطينيين، لكن يجب إيقاظ جو بايدن من نومه ليستنكره حين يطاول مستوطنين. الصدمة هي لأن ردع الأمن والقضاء المتوقّع فشل، وهذا يدخل الشك في واقع موازين القوى القائمة ومفاهيم التعايش والتعانق مع «الآخر» التي يروّج لها في هذا البلد أو ذاك.
العنف رد فعل إنساني طبيعي على الإهانة. على المستوى الفردي تكثر الإهانات من خلف الشاشات والحسابات الوهمية، لكنها أقل شيوعاً بكثير وجهاً لوجه، وإن كانت تنتشر أكثر في ظل الانهيار التام، وذلك لأن للإهانة المباشرة تداعيات وردود فعل عنيفة. على المستوى الجماعي، التمادي في الإهانة والإذلال يقود إلى ثورات وحروب وإرهاب. الإرهاب أيضاً أداة ردع عندما يفشل الأمن والقضاء، وقد يكون موجهاً إلى متنمّر متمادٍ أو لإحباط مقاومة مظلوم، وغالباً ما يدّعي طرفا العمل الإرهابي دور الضحية. هذا في المفهوم المطلق، لكن إذا ما أخذنا حالات محدّدة في الاعتبار، يبطل ادّعاء المتنمر المستقوي بموازين قوى الأمر الواقع بأنه ضحية. طبعاً، كان للتعاطف مع شارلي بعد ثقافي استعماري، وهنا المستعمَر ثقافياً يريد أن يتماهى مع مستعمره مهما كان حتّى بأبشع صوره، ففي الهجاء التهكّم والسخرية الفرنسية أدباء ونقاد وكوميديون مميزون، وإن كان لا بد من أن تكون مقلّداً لفرنسا فهناك عشرات الأمثلة أرقى من شارلي.
يدرج القول بأن حرية الفرد تقف عند حد حق الفرد الآخر. وما يمنع الاعتداءات أو يحدّها هي العقود الاجتماعية التي تتوصل إليها الشعوب والتي تضمن، ورقياً، صيغة اللا غالب ولا مغلوب، أو وهمها، ويتم الحفاظ على هذه الصيغة من خلال أعراف وقوانين وآليات لتطبيقها. وهنا أهمية القضاء. لكن القضاء وقوانينه، كالهجاء والكوميديا، يمكن أن يكون «شارليّ» الهوى. الانحياز في القانون للأقوى أو الأغنى أو الأكثر بياضاً هو دستور معولم في عالمنا الحالي.
الجرأة في عالم كهذا هي في الانحياز للمظلوم ضد الظالم، أن تُضحك المحكوم على الحاكم. أن تقول علناً أن الملك عاري بينما تمدح حاشيته هندامه، أن تلكم نحو الأعلى لا نحو الأسفل، أن تتنمر على المتنمر. في لبنان الجرأة في هجاء الطوائف هي أن تهجي عواميد المنظومة المتنوعة الطوائف التي تشبك أياديها ببعض وتغني «كومبايا» وسط حالة انهيار وانحطاط قد تصل بالبلاد إلى التقاتل الأهلي. لكن ليس الجريء بالضرورة حكيماً.
المشكلة اليوم ليست في كمّ التفاهة والانحطاط الذي يبثّ على هذه القناة أو تلك، فكما سبق وذكر، لا الهجاء جديد وشمس الطوائف تشرق منذ الأزل على الوطن. المشكلة هي في أن الكل يتوهم أنه على حق من دون أن توجد حقيقةٌ غير أن الحق، كالليرة، ليس قيمة ثابتة. الحق والباطل مفهومان يتأثران بعوامل القوة وفلسفات المكان والزمان، وأمّا الحقوق المنصوص عليها في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، فقد أثبتت في غير مرّة أنها مجرّد حبر على ورق لمن هم أقوى من القانون. القانون ليس مجرّد نص بل أيضاً القدرة على تطبيق النص. فيمكنك الاجتهاد بأنّك على حق أو أنّك الحق مجسداً في إنسان، لكن في الآخر هل لديك قوة إثبات حقك وحمايته، ومن أين تستمدّ هذه القوة. بمن تستقوي وعلى من؟ الإعلام المرتزق الذي روّج لكذبة الليرة بخير لسنين معروف رخصه، لكن السؤال هو ماذا يحصل عندما يصبح تعويل القضاء والأمن على نفس مصادر تمويل الإعلام؟
لا تقلقوا، لن ينحدر قضاة وجنود الوطن إلى مستوى تلفزيونييه. لا داعي للهلع، الجيش والقضاء بخير. لن تطول الأزمة. صحيح أنه ليس لدى لبنان ثروة ليثيوم، لكن يبدو أن لديه بلوكات غاز. تبقى هناك مشكلة صغيرة جداً وهي أن مفتاح الخلاص هذا هو عند نجيب ميقاتي وفرنسا «شارلي».