يواصل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بالتعاون مع نوابه الأربعة وسائر أعضاء المجلس المركزي، ومع لجنة الرقابة على المصارف، تأمين استمرارية المصارف، ولو على حساب كل المجتمع. هذا ما حصل في السنوات الثلاث الماضية، ويستمر لغاية الآن. فمع ارتفاع سعر الصرف المعتمد رسمياً من 1507.5 ليرات إلى 15000 ليرة، ستصاب المصارف بخسائر فورية جمّة ستأكل من رساميلها نحو 13.5 مليار دولار، إلا أن سلامة وباقي «الشلّة» ابتدعوا طريقة بائسة لتجميل الميزانيات من خلال السماح للمصارف بإعادة تقييم موجوداتها المحلية والخارجية على سعر منصّة «صيرفة» وتقسيط خسائر مراكز القطع المدينة على خمس سنوات.ففي 20 كانون الثاني، أصدر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، التعميم الوسيط 659، والذي جاء مبنياً على مادتين في قانون النقد والتسليف هما: 70 (مهمّة المصرف العامة) و174 (صلاحية المصرف المركزي في استخدام الوسائل التي من شأنها أن تؤمّن تسيير عمل مصرفي سليم). كذلك بُني التعميم على «الظروف الاستثنائية»، وعلى «قرار المجلس المركزي بتاريخ 18/1/2022». أما مضمون التعميم، فهو يتعلق بتصفية «مراكز القطع المدينة المفتوحة كما في 31/12/2022، وذلك تدريجياً على فترة خمس سنوات كحدّ أقصى». وأتاح التعميم أن يُدرج ضمن الرساميل 50% من ربح التحسين الناتج من إعادة تخمين موجودات المصرف العقارية (أراضٍ وأبنية) المملوكة منه بكامل أسهمها، بالإضافة إلى العقارات والممتلكات والمساهمات والمؤسسات التي يملكها في لبنان والخارج. واشترط أن تتم عملية التخمين قبل 31/12/2023 وأن تُجرى بالدولار الأميركي النقدي على أساس سعر «صيرفة».

3

هو عدد المصارف التي تعاني من نقص في السيولة بالدولار النقدي تجاه الودائع الجديدة للزبائن التي يفترض فيها أن تغطّيها بنسبة 100%


تبلغ قيمة مراكز القطع المدينة نحو 8 مليارات دولار، علماً أنها كانت تصل إلى 9 مليارات دولار، لكن الحاكم خفّضها عبر العرض الذي قدّمه للمصارف بمنحها مليار دولار (دولارات مصرفية غير نقدية) مقابل 8000 لكل دولار. ومراكز القطع هي الحسابات التي تسجّل فيها عمليات شراء العملة الأجنبية نسبة إلى رأس المال. هناك آلية معقّدة تقنياً لاحتساب ما يدخل وما لا يدخل في النسب المسموح للمصارف بتجاوزها كنسبة من رأس المال، لكن في المجمل يمكن تفسيرها على الشكل الآتي: المصرف لا يملك الدولارات لتسديد ودائع الزبائن (يفترض أن يحصل عليها من حساباته لدى مصرف لبنان أو يشتريها منه)، لذا يُسمح له بأن يدفع قسماً من هذه الدولارات مقابل تسجيل المبلغ المدفوع في مركز القطع بالعملة الأجنبية على شكل دين متوجب على رأس المال. وبمعزل عن سعر الصرف المحتسب لتسديد قيمة الوديعة للزبون، فإن المشكلة تكمن في أن المصارف سدّدت للزبائن دولارات لا تملكها، وبات عليها دين يفترض تسديده أو شطب ما يوازيه من الرساميل. ولأن المصارف لم تستطع، أو لم تسعَ إلى جمع ما يكفي من الدولارات لتغطية مراكز القطع، ثم أتى التعديل المتعلق بسعر الصرف المعتمد رسمياً بقيمة 15 ألف ليرة لكل دولار، فصار عليها أن تسجّل مراكز القطع المدينة باعتبارها خسائر فورية في ميزانياتها، لأن العملة المستعملة في الميزانيات هي الليرة اللبنانية.

ربع المصارف

أو أكثر تعاني من نقص السيولة بالدولار النقدي بشكل عام، إذ يترتّب على المصارف أن تؤمّن 3% من ودائع الدولار وأن تغطّي ودائع الزبائن الجديدة بنسبة 100%


باختصار، تبلغ قيمة مراكز القطع المدينة 8 مليارات دولار، وكلّها ستسجّل خسائر بسعر صرف يبلغ 15 ألف ليرة، ويضاف إلى ذلك أن الودائع الدولارية البالغة 100 مليار دولار ستصبح مسجّلة في الميزانيات على سعر صرف 15 ألف ليرة. وبحسب اختبار الضغط الذي أجرته لجنة الرقابة على المصارف لقياس قدرة المصارف على تحمّل سعر الصرف البالغ 15 ألف ليرة، فإن الخسائر الفورية في المصارف ستأكل القسم الأكبر من الرساميل (الاختبار يعالج الميزانية بكاملها من موجودات مقابل التزامات. الودائع ومراكز القطع المدينة هي التزامات، والقروض والأصول الأخرى هي موجودات)، إذ ستتدنّى قيمة الرساميل من 16 مليار دولار إلى نحو 3 مليارات دولار.
هذه النتيجة تشمل الميزانية المجمّعة للمصارف، لكن عندما يجري التدقيق بكل مصرف على حدة، يتبيّن أن غالبية المصارف سيكون لديها رساميل سلبية، مقابل قلّة من المصارف استطاعت تجاوز هذا الاختبار، وإن بصعوبة بالغة أيضاً.
الحاكم وجد الحلّ بسهولة. كل ما على المصارف فعله هو أن تعيد تخمين موجوداتها، سواء العقارية أو الشركات والمساهمات التي تملكها في لبنان والخارج. إعادة التخمين متاحة في قانون الموازنة العامة لعام 2022، لكن الإشكالية الحقيقية تتعلق بسعر الصرف الذي سيُحتسب على أساسه التخمين. فهل ستتم إعادة تخمين هذه الموجودات بالدولار المحتسب على سعر صرف 15 ألف ليرة، أو بسعر «صيرفة» البالغ 38 ألف ليرة، أو بسعر السوق الحرّة البالغ 55 ألف ليرة؟ سلامة قرّر أن تكون «صيرفة» هي المرجعية مهما يكن السعر بتاريخ التخمين، وهو أمر يجعل من ميزانيات المصارف مسخاً غريباً تتصارع فيه تعددية أسعار الصرف. إذ سيكون لدى المصارف قيود مسجّلة على سعر صرف السوق الحرّة، وقيود على سعر «صيرفة»، وقيود على سعر الـ 15 ألف ليرة. عملياً، هو ينقل مشكلة تعدّدية سعر الصرف إلى السجلّات المحاسبية للمصارف، وهو أمر يربك مدققي الحسابات، إن لم يعجّزهم!

كل دولار خسارة سيُغطّى بنصف دولار من إعادة تخمين الموجودات والممتلكات في لبنان والخارج


إنما بهذه الخطوة، سيمنع سلامة «دفن» المصارف المُفلسة. فكل دولار خسارة، سيتم إطفاؤه بنصف دولار من الموجودات المعاد تخمينها. وهذه عملية غير مسبوقة في العمل المحاسبي، ولا يمكن أن يقوم بها أي ناظم لقطاع كهذا في أي دولة في العالم. والإشكالية الثانية تتعلق بتقسيط الخسائر على خمس سنوات. فرغم أن الأمر يبدو عادياً، إلا أنه يستحيل تقسيط الخسائر الفورية المحققة التي تأكل الرساميل وما يزيد عنها أيضاً؟
رغم ذلك، يبدو أن المصارف تعترض على تفاصيل في الآلية، إذ إنها تطالب بأن يتمّ السماح لها بتسجيل 100% من العقارات بدلاً من 50%، وهذا أمر يتيح لبعضها تعزيز عملية إعادة الرسملة. وبحسب المعطيات، فإن مجموعات تقنية من المصارف بدأت تعقد اجتماعات من أجل إعداد صيغة بديلة سيتم اقتراحها على سلامة. وتشير المعطيات إلى أن المصارف قد تربح الجولة مبكراً، ولا سيما أنه لم يصدر بعد تعميم تطبيقي من لجنة الرقابة على المصارف لتحديد إجراءات تطبيق التعميم 659.



«المركزي» سبب ارتفاع الدولار
قال عاملون في سوق الصرافة إنه رغم العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأميركية على شركة CTEX التي كانت تستحوذ على أكثر من 30% من عمليات جمع الأموال وضخّها لمصلحة مصرف لبنان، إلا أن هذا الأخير استمرّ في الأيام الأخيرة بشراء الدولارات من السوق بشكل جنوني، وهو الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع سعر الدولار في السوق الحرّة ليتجاوز 55 ألف ليرة. وفي السياق نفسه، بدأت تنتشر أنباء عن أن مصرف لبنان ينوي رفع سعر الصرف على منصّة صيرفة إلى 42 ألف ليرة ليبقي هامشاً بينهما لا يتجاوز 15 ألف ليرة. ومواصلة مصرف لبنان في جمع الدولارات من السوق بالكثافة التي ترفع سعر الصرف بشكل جنوني تتزامن مع أجواء سياسية مشحونة سببها النشاط القضائي والعقوبات الأميركية، إنما سبب جمع الدولارات قد يكون متصلاً بكون مصرف لبنان يسعى إلى تعزيز موجوداته بالعملة الأجنبية التي تدنّت كثيراً بسبب المدفوعات المترتبة عليه من أجل تسديد ثمن شحنات الفيول والمازوت لزوم مؤسسة كهرباء لبنان. وهذا لا يلغي حقيقة أنه في ظل هذه الأجواء تنشط المضاربات الساعية إلى تحقيق أرباح من خلال رفع السعر، وهي مزايدات يقوم بها الصرافون الذين يعملون لمصلحة مصرف لبنان بشكل أساسي.