تحمل دور رعاية المسنّين في مجتمعنا عموماً صبغة قاتمة مرذولة. أن ينتهي المرء في مأوى للمسنّين يعني خاتمة سودواية يخشاها الكثيرون، ويتمنّون انقضاء الأجل على أن يمضوا ما تبقّى من حياتهم بعيداً من دفء العائلة. ولذا يُنظر لنزلاء دور الرعاية بشفقة كبيرة، فهم إما مقطوعون من شجرة، أو لأبناء عاقّين قساة القلوب. غير أن الصورة ليست دائماً كذلك، فقد كانت دور الرعاية في كثير من الأحيان خياراً إرادياً ومثالياً لكثير من المسنّين، رغم رفض المحيطين بهم للأسباب الاجتماعية المعروفة. في عين الرمانة، وفي شارع فرعي هادئ يقع مبنى قديم من طبقتين مطليّ بالأبيض، تحيط به الأشجار وتماثيل السيدة العذراء: إنه دار الرعاية المارونية للمسنّين. على إحدى الشرفات، تجلس سيدتان في ثياب النوم القطنية، أمامهما طاولة عليها كوبان... لعلّهما تشربان القهوة. لوّحت إحداهما بابتسامة راضية للزائر الغريب.
يبدو المكان منعزلاً عن كل الأسى الذي يحيط البلاد. «هنا، لا نحضر الأخبار ولا البرامج السياسية. وبقدر ما نستطيع نحاول عزلهم عن حقيقة الأوضاع في الخارج. من حقهم أن يشعروا بالهدوء في هذه المرحلة من حياتهم» تقول الراهبة المشرفة على الدار. وهنا، نختار للحديث عن حياة الكبار من كان صاحياً وواعياً لأن بعض كبار السن يعانون من أمراض الألزهايمر والخرف، فكانت الاستجابة من منى ومنتهى.

منى: أحببتُ حياتي
تعيش منى أبي نادر (75 سنة) في الدار منذ سنتين. اتخذت هذا القرار بملء إرادتها بعدما بُترت قدمها لدواع صحية. «كان أخي، وهو مسنّ أيضاً، يحملني ويعتني بي هو وزوجته في البيت، عاملاني بأحسن ما يكون. لكنني فكرت بأنه كبير هو الآخر ويعاني من أوجاع في الظهر، كما أنه غير موجود طوال الوقت، فحسمت أمري بالانتقال إلى المأوى الذي أعرفه منذ عام 1990 عندما كنت أزور قريبة عاشت فيه أيام راحتها. رفض أخي في البداية، لكنه رضخ أخيراً لرغبتي».
كانت منى معلّمة لغة فرنسية في مدرسة الآباء الأنطونيين. درّست وعملت ناظرة لـ 50 سنة من حياتها، متنقلة بين الضاحية الجنوبية خلال الحرب الأهلية، ومن ثم في مدارس جبل لبنان. استمرّت في عملها حتى 2017 حينما أقعدها المرض والتعب عن العمل.
لا تنظر منى بأسى إلى وجودها في دار للمسنين. على العكس، تعدّ نفسها محظوظة وراضية عن كونها في مكان تلقى فيه الاهتمام والرعاية. «كلّ يوم منعمل صبحية قهوة وعصرونية. نتحدّث وأسترجع ذكرياتي، وأفرح وأنا أرى تأثير هذه الذكريات على وجوه من هم حولي لأنني عشت حياة سعيدة».
غير أن ساعات الصفو هذه يكدّرها الحزن لسببين: «أولاً لأنني لا أستطيع أن أمشي، أبقى في السرير ولا أعمل شيئاً بسبب المياه الزرقاء في العين. ثانياً، بسبب شعوري بالألم عندما أرى الذين يعانون من الألزهايمر والخرف. هنا سيدة أعرفها، كانت في شبابها مديرة لسلسلة محالّ ضخمة في فرن الشباك. اليوم هي ضائعة تماماً. أحزن بشدة لمصيرها هذا».
من يعش شبابه بكلّ ما فيه من حياة لا ييأس عندما يكبر


لا تشعر منى بأن العمر مضى سريعاً، فهي استفادت منه كلّه «سافرت إلى العديد من البلدان، وعملت في فرنسا لـ 15 سنة وبقيت أسافر إليها شهرين كل سنة. أحببت الحياة كثيراً ولا أندم، فقد عشت ما عشته ولم أقصر في حق ما أردته لنفسي، والآن هو عمر الراحة». ترى أن الحال النفسية في الشيخوخة تتوقف على حياة المرء في شبابه «فمن يعش شبابه بكلّ ما فيه من حياة لا ييأس عندما يكبر، أما من عاش مقهوراً بشبابه فسيكون كبره كارثة عليه».
تفرح منى عندما يزورها زملاؤها وتلاميذ ممن درّستهم «يرفعون معنوياتي وأشعر بأن حياتي لم تضع هباء». وترى أن المسنّين في لبنان راضون عن واقعهم «لأن العائلة لا تزال تعتني بالختيار، ولا يزال لدينا قيمة للكبير والمريض، أما في الخارج فيصبح وحيداً».
اشترت منى طرفاً صناعياً لتعاود المشي. «سأبدأ بتعلم المشي من جديد». تبتسم بأمل كما لو كانت طفلة تستعد لأول مغامرات الحياة في المشي.

منتهى: ليت الشباب يعود
عاشت منتهى بو منصور (80 عاماً) حياة صعبة، تعرّضت فيها للتهجير خلال الحرب الأهلية بعدما كانت تعيش مع عائلتها في الجبل، حيث كانوا يملكون بعض «الرزق». انتقلت إلى الأشرفية، التي سكنت فيها مع والدها بعد رحيل الوالدة، وزواج الأخ وسفر الأخت إلى كندا، ثم انقطاع أخبارها.
عملت في مصنع للخياطة في سد البوشرية، ومن ثم انتقلت إلى معمل قريب من سكنها. بعد نحو 10 سنوات أقفل المصنع وبقيت وحيدة، بلا عمل وبلا تعويض. في هذه المرحلة الحرجة، بدأت تعاني سلسلة من الأمراض، خاضت على أثرها 7 عمليات انتهت ببتر قدمها، واضطرت خلال هذه الفترة إلى صرف كل «تحويشة» العمر، إلى أن انتهى ذلك كلّه ببيع بيتها واستئجار بيت حتى تتمكن من إنقاذ حياتها. «كان هذا البيت كلّ ما أملك في الحياة. لم يكن لديّ ضمان، ولم يكن بجانبي سوى أخي الذي يتحمّل مسؤوليات كثيرة ولم أشأ أن أحمّله مزيداً من الأعباء. وفي النهاية، لم يتبقّ من يطلّ عليّ، ونف ما كان قد تبقى معي لدفع كلفة الإيجار، إلى أن أرشدني بعض الذين عرفوا بحالي إلى فكرة المأوى، وكان أمامي خياران: مأوى في المنصورية وآخر في عين الرمانة، فاخترت الأخير لقربه من حياتي التي أعرفها وأقرب إلى هؤلاء الناس الذين يزورونني أحياناً ويؤمنون لي الدواء وبعض الحاجيات».
تقضي منتهى يومياتها في المأوى ما بين نائمة وجالسة في سريرها تتلقى زيارات من «الختايرة مثلي أو ألعب في مكعب روبيك». تحب منتهى الحياة كثيراً. ولما سألناها عن أمنيتها في هذه الدنيا تضحك «يا ريت برجع صبية».