يتبادل الأهل والأبناء الأدوار خلال مراحل الحياة، من اعتناء الآباء بالأطفال، وصولاً إلى تحوّل الابن أو الابنة إلى مسؤولين عن رعاية أهلهم بعد تقدّمهم بالسنّ، ووصولهم إلى ما يُعرف بـ«أرذل العمر». ولكن، يصعب تعميم صورة واحدة على العلاقة بين الابن والوالدين، فهي تختلف كثيراً بين المجتمعات وفيها.بحسب منظمة الصحة العالمية «يمثّل طول العمر واحداً من أعظم انتصارات البشرية في العصر الحديث، كما أنّه واحد من أعظم تحدّياتها». لكنّ النظرة إلى المسنّين تتغيّر وتتبدّل تبعاً للمجتمعات وتوجّهاتها الاقتصادية والفكرية والدينية، فـ«المجتمع الشرقي لا يزال متسمكاً بالأسرة بشكل عام» وفق عليا فرحات أستاذة علم الاجتماع، وإن لفتت إلى «نموّ النزعة الفردية في المجتمعات الشّرقية خلال القرن الماضي، فيقوم بعض الأشخاص بترك بيوتهم وأهاليهم، إلا أنّ الأسرة الكبيرة (بقية أفراد العائلة) تعوّض، فيبقى الاهتمام بالمسنّ موجوداً، ولو بالحدّ الأدنى».

(هيثم الموسوي)


أمّي كلّ الحياة
توفيت والدة سامر، أستاذ الفلسفة الخمسيني منذ أكثر من 6 أشهر، لكنّه يذكرها كلّ يوم في مجالسه بين أصدقائه، ولا يترك مناسبة إلّا ويطلب منهم بحرقة «رعاية أهلهم، واستغلال كلّ دقيقة معهم قبل رحيلهم». يقول في إحدى السهرات «نحن نتاجهم، هم جذورنا، والنبات من دون أصله يذبل»، متخوّفاً من أن يفقد الأولاد حماستهم تجاه رعاية المسّنين من أهاليهم. نسأل ما إذا كان حديثه المتواصل عن الأمر سببه فقدان الوالدة، فلا ينفي «أمي كانت تمثل لي كلّ الحياة. لقد ربّت 5 أطفال، كنت أصغرهم بعد وفاة والدي ،مفنيةً صباها لتعليمنا، وبعد وفاتها شعرت بخطورة الفقدان على كبر، فكيف حال من يفقد أهله على صغر»، ويرفض بشكل قاطع «أن يقتصر الاهتمام بالأهل على الجانب المادي»، كأن يقوم الابن المقتدر بالاستعانة بممرّض وخادم للقيام بأعباء أهله اليومية.

الوقت الفارغ يقتل
الأمر ذاته يؤكّده محمد، فعلاً لا قولاً فقط، فهو ربّ عائلة مكوّنة من أربعة أفراد، ومدير في شركة عالمية، وصاحب عمل خاص أيضاً، لكنّه يخرج يومياً من بيته قبل طلوع الشمس ليصل إلى منزل خاله التسعيني غير المتزوّج، قبل استيقاظه، ليساعده على الاستحمام والتغسيل صباحاً. وقبل أن يعود إلى منزله مساءً، يمرّ مرّة أخرى بمنزل خاله للاطمئنان إلى حاله وليضعه في السّرير. لا يرى محمد بأنّه يقوم بعمل غريب «الأمر أخلاقي، فغداً سأصبح مسنّاً أيضاً». وعن عدم اتكاله بشكل تام على الممرّض الموجود مع خاله يقول «الوقت أساسي، وهو أعظم عطاء ممكن، فالعناية الشخصية بالمريض تغيّر من وضعه النفسي، أمّا إغداق المال على المسنّ فلا يعنيه أبداً، فالعامل الصحي قد يتعامل معه كقطعة لحم دون إنسانية»، وأبرز تعويض لتعبه يقول «ضحكة خالي، وسؤالي كيف شايفني يا دكتور؟».

وقتي ملك لي
في المقابل، يرفض عيسى فكرة التضحية بالوقت، فهو يعتبر أنّه «يضحّي بأغلى ما يملك عند بقائه مطوّلاً في منزل أهله»، بينما يمكنه القيام بأعمال منتجة خلال هذه المدّة، التي يرى أنّها «تزيد من التوتّر لديه، فأهلي عالقون في الماضي، ولا يرونني إلّا طفلاً صغيراً عليهم توجيهه بشكل دائم». بالنسبة إليه، «الواجب هو زيارتهم والمساعدة في تحمل بعض تكاليف معيشتهم». تشاركه سعاد هذه النظرة، وترفض «فرض المجتمع لرؤية أو قالب معيّنين حول طريقة التعامل مع المسنّين»، وترى مثل هذه الأفكار «عقبات في طريق انطلاق أيّ شخص». وعند سؤالها عن موقفها من أولادها في حال عاملوها لاحقاً بناءً على أفكارها، تجيب بأنّها «تعمل فوق طاقتها اليوم كي لا تحتاج أحداً عند عجزها غداً».

وإجابة علم النفس
يقارب علم النفس الموضوع من عدّة زوايا، فكلّ حكاية هي حالة قائمة بذاتها. تعيد الدكتورة غادة الأسعد، أستاذة علم النفس في كليّة التربية التعامل الجيّد مع المسّنين عامة والأهل خاصة إلى «التقدير العالي للذات لدى الشباب، والرضى عن الإنتاجية، فكلّما كان الشاب محققاً للنقاط السابقة يكون المردود جيّداً في العلاقة مع الأهل». لكنها تحذّر من «التعلّق المرضي للأبناء بأهلهم، بحيث ينسون بيوتهم وأبناءهم»، وترى في هؤلاء «أشخاصاً لم يستطيعوا بناء هوية خاصة، ويبحثون دائماً عن الاكتفاء العاطفي فيجدونه عند أهلهم، ومشكلتهم ستتفاقم كلّما تقدّم العمر بأهلهم، واقتربوا من الموت».
في المقابل، تربط الأسعد مشاكل ترك الأبناء لأهلهم المسنّين، أو عدم التعاطف الإيجابي معهم بالطرفين، فـ«أحياناً، يتطلّع الأهل بالماضي فقط، ويحصون مشاكلهم السابقة دائماً أمام أولادهم، هذا الأمر يخلق نفوراً من الأبناء تجاه أهلهم». في المقابل، قد يبتعد الأبناء تدريجياً عن أهلهم لأنهم لا يريدون أن يكونوا مثلهم. فشعور الابن بأنّه يسير على خطّ أهله يدفعه إلى الابتعاد أكثر».
كما تذكر الأسعد «وجود أولاد لم يتربّوا على التعاطف الإيجابي، فالمشاعر غير المقترنة بالأعمال لا تكفي»، وتضع الأسعد المشكلة هنا في خانة «المناهج التدريسية والتعليم الذي يلعب دوراً سلبياً في النظرة إلى المسنّين ومساعدة الآخرين، إذ ينظر إليهم على أنّهم عبء، ونحن مجبرون بهم». يضاف إلى ما سبق وجود «أطفال يكرهون أهاليهم لأسباب خاصة، مثلاً الطفل الذي يرى أنّ أمّه تفرّق بين ابن وآخر»، والمشكلة هنا «لا يمكن حلّها لاحقاً، وستؤدّي إلى كره الابن لأحد الأبوين.