لدى إعلان إنشاء «ميناء الرئيس نبيه بري للصيد والنزهة» في عدلون قبل نحو عشر سنوات، دُهش صيّادو عدلون وجوارها، من أبو الأسود إلى السكسكية وخيزران والصرفند. «أين هم الصيادون الذين سيُنشأ لأجلهم هذا المرفق الضخم؟» تساءلوا. ورغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على إنجازه، لم يُشغّل الميناء بعد، لا باستقبال قوارب الصيد ولا قوارب النزهة. ولاحقاً، أقفل الجيش اللبناني حرمه وحوضه على المتنزّهين وهواة الصيد إلا لحاملي التراخيص.
(علي حشيشو)

استقطب الحوض والسنسول الضخم عشرات الصيادين الذين يعتمدون على الصنارة والشباك والأقفاص. أما الصيّاد المحترف الوحيد في عدلون، الذي يمتلك قارباً، فلا يزال يركنه في ميناء الصرفند البعيد كيلومترات قليلة. لم يحتج أهل عدلون وجاراتها في ساحل الزهراني، إلى ميناء جديد. ميناء الصرفند نفسه يزدحم بـ«اللانشات» السياحية أكثر من قوارب الصيد، إذ إن معظم أرباب المهنة توفوا أو تقاعدوا من دون أن يورثوها لأبنائهم، الذين اختاروا السفر أو العلم أو مجالات عمل أخرى. من صمد في المهنة لم يتوقع تشغيل ميناء عدلون، أو دعم الدولة له وتطوير أدواته. حافظ على وسائله الموروثة. ومنها ما تأثّر بفعل الأزمة الاقتصادية وارتباط أسعار معدات الصيد بسعر صرف الليرة في السوق الموازية. الأزمة أعادت البعض إلى استخدام الديناميت الذي كان قد تقلّص منذ عام 1992 بعدما كان شائعاً خلال سنوات الحرب. علماً بأن تهمة «التروبين» كما يُتعارف عليه بين «البحرية»، ظلّت ملازمة لصيّادي الزهراني. وما بين الواقع والمبالغة، فقد اعتُبروا «من المحظيين الذين يعيثون في البحر من دون ملاحقة، مستفيدين من غطاء سياسي وحزبي».

انحسار الديناميت وعودته
بالعودة إلى عام 1992، فقد دخل بحر المنطقة في حينه في مرحلة أكثر انضباطاً. ونشطت دوريات حرس الشواطئ لمراقبة المخالفين، ما دفع بعض الصيادين المتضرّرين إلى تشكيل وفد إلى مكتب الرئيس نبيه بري في المصيلح للشكوى من التشدّد بمنع استخدام الديناميت. ويتناقل الأهالي كيف تنبّه بري إلى أن معظم المعترضين لم يكونوا يملكون أيدياً لمصافحته، ومنهم مَن لم يستطع رؤيته بسبب إصاباته الناجمة من استخدام الديناميت! عدا الرصد الأمني، أدّت عوامل كثيرة إلى انحسار استخدام الديناميت في بحر الزهراني. أوّلها خطر الموت، وثانيها اعتماد جيل الصيادين الجديد على وسائل أخرى، منها الأقفاص والجاروفة والبارودة. فضلاً عن أن مواد التفجير لم تعد متوافرة، ولا سيما النيترات.
الموت خطر متحقق في الصرفند وحدها، التي توفي من صياديها أكثر من عشرين شخصاً عدا الإصابات. رغم ذلك، تبقى مقابلة الناجين من انفجار «التروبين» أو لقاء أقرباء الضحايا مهمة مستحيلة. «ما بدنا نفتح علينا فتوح أمام القوى الأمنية» يقول فادي. هو نفسه رفض التصريح باسمه الحقيقي. يوحي بوجود جوّ بين «البحرية» أشبه بـ«المافيات». يتجنّب «أهل الكار» التطرّق إلى الأمر لكي لا يُفهم «دزّة» على رفاقهم. يتوافقون على حماية مصالحهم، لكن لا يمكنهم إخفاء حقيقة الاستخدام المستمرّ للديناميت. «من يجزم لك بأن لا تروبين في بحر الصرفند فهو كاذب» يقول فادي. هو نفسه يتمنى لو يستخدمه بسبب السمك الوفير الذي يمكن أن يجنيه في رحلة واحدة. «لكني أمتنع عملاً بوصية والدي الذي فقد اثنين من أشقائه خلال الصيد في البحر». الصيد المكثف بالديناميت الذي شهده بحر الزهراني، أجبر فادي على تغيير وجهته. «حرقوا البحر، فاضطررت منذ تحرير الجنوب عام 2000، لأن أربط في ميناء الناقورة وأسرح في البحر قبالته حيث وسائل الصيد مضبوطة بسبب إجراءات الجيش وبحرية اليونيفل».

جدد على «الكار»
حتى الذين دخلوا حديثاً إلى المهنة لا يتردّدون في استخدام الديناميت رغم المخاطر. منهم عسكر ومدرّسون ومهندسون من جيران البحر، غالبيتهم تستخدم الديناميت لأنه وسيلة الجني الأسرع والأضمن. «في يوم واحد، يصطاد رطلاً من السمك لا يقلّ ثمنه عن المليون ليرة» بحسب فادي. العناصر الأمنيون خصوصاً، الذين جعلوا من الصيد عملاً إضافياً لزيادة المدخول «يستفيدون من نفوذهم لبيع سمك التروبين بسهولة من دون الخوف من الوشاية». بينما الصيادون الآخرون «يحملون همّ تهريب جناهم ويضطرون لبيعه بثمن أقلّ». فالسمك الذي اصطيد بالديناميت يمكن تمييزه في سوق السمك عن أنواع الصيد الأخرى. «سمك التروبين يموت اختناقاً، فيما السمك الآخر يسيل دمه في الشباك. ولذلك، يجد كثيرون أن هذا هو سبب المذاق الطيب له».

الديناميت صوري أيضاً؟
كلّ هذه الوقائع، لا تعني بالنسبة إلى صيّادي الصرفند أن صيّادي صور محقّون في احتجاجهم عليهم، واتهامهم بأذية بحرهم. يعتبر فادي أن هجمة الصوريين هي «ضيقة عين تجاهنا لأننا نسرح بين الزهراني والناقورة. نحن نعتمد على وسائل عدة للصيد لأنه وسيلة رزقنا الوحيد. رحلات النزهة والسياحة ممنوعة علينا في ميناء الصرفند، بخلاف ميناء صور حيث يُسمح للصياد باستخدام قاربه كما يشاء».
تراجعت دوريات المراقبة، سواء من قبل حرس الشواطئ أو فرق وزارة الزراعة


ويؤكد أحد الناشطين البيئيين في صور أن تحرّك صيادي صور هدفه «إبعاد صيادي الصرفند عن بحرهم لأنهم يزاحمونهم بالرزق. فيما يتساوون جميعهم باستخدام الديناميت». مصدر في بلدية صور أشار إلى أن بحر صور كان محمياً من الديناميت حتى قبل الأزمة الاقتصادية الأخيرة، وذلك بسبب الإجراءات المشدّدة التي اتخذتها البلدية بالتعاون مع الأجهزة الأمنية. فضلاً عن أن معظم الصيادين تحوّلوا من الصيد إلى السياحة وتنظيم النزهات للسياح والزوار بمراكبهم في البحر، ما كان يؤمّن لهم مداخيل أعلى من صيد السمك. لكن زمن الفوضى انسحب على بحر صور أيضاً. وفق إحصاءات نقابة الصيادين، فقد قُتل عشرة منهم قبل عام 1992 وأصيب ثمانية بتشوّهات وبتر أعضاء.

تراجع دوريات الحراسة
أخيراً، وبعد تراجع السياحة وارتفاع أسعار الوقود وصيانة المراكب والشباك، عاد كثر للصيد بالديناميت في صور، فاصطدموا بصيادين من خارج المنطقة سبقوهم إليه. «زاد الصيد بالديناميت رغم ارتفاع سعر مواد الطبخة، لكنه يبقى أقلّ من سعر خيطان الشباك» يقول الناشط. هكذا تجرّ قوارب عدةّ خلفها فتيلاً طويلاً مربوطاً بـ«غالون» فيه عبوات «التروبين»، وتتجه نحو «الزيرة» بحثاً عن تجمّعات السمك الذي كان من المنتظر بأن يتكاثر بعد أنواء شهر تشرين الثاني المعتادة. وبحسب الناشط، «حتى الآن لم تحدث الأنواء التي تقلب البحر وتحمل جحافل السمك إلى بحرنا. في حين شهد العام الماضي عواصف بحرية متكرّرة». ومن عوامل رواج الديناميت في صور، تراجع دوريات حرس الشواطئ لتعقب المخالفين وفرق وزارة الزراعة المكلفة بالإشراف على المسامك وأسواق السمك لفحص جودة السمك.
النزاع البحري بين الصرفند وصور يقابله نزاع مماثل بالديناميت على شواطئ الشمال التي تشهد كثافة وفوضى في هذا السياق. وبدرجة أقلّ، يشهد بحرا خلدة والدامور اعتداءات مماثلة. ويجزم الناشط بأن الأزمة الاقتصادية ستضاعف الفوضى في قطاع الصيد ومخالفاته. عدا الديناميت، يتعسّف كثر في استخدام بارودة الضوء التي تستهدف الكهوف البحرية وتقتل بذار السمك الذي لا يلائمه الضوء. فضلاً عن استخدام الشباك الضيقة المعروفة بـ«العمياء».