العاملون في الحقل القضائي في لبنان، جلّهم تعلم وفق المدرسة الفرنسية في الحقوق. بعضهم يزور فرنسا للإفادة من التجارب والخبرات، ومنهم من تحلو له المقارنة أحياناً بين طريقة العمل الإداري في قصور العدل في البلدين.أحد هؤلاء يروي أن قصر العدل في باريس، وهو مبنى ضخم شُيّد حديثاً وكلف بناؤه نحو ملياري دولار، شكا القضاة من صغر مكاتبه، وضيق مرأبه الذي يتسع لعدد قليل من السيارات. فتبيّن أن المسؤولين في بلدية باريس وجدوا أنه ينبغي على القضاة والإداريين استخدام المترو ووسائل النقل العام للتنقل. إذ إن الاستعراض أن يكون من سمات العاملين في الحقل العام.
يعيدنا هذا إلى المحقق الألماني ديتليف ميليس، وصورته الشهيرة لدى خروجه من مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، وهو يجري منتقلاً من رصيف إلى آخر قبل أن يستقل سيارة أجرة. يومها كان المشهد ليبقى عادياً، لولا أن اللبنانيين الذين اعتادوا المواكب الضخمة لزعمائهم، لم يستغربوا كثيراً «الأسطول» الذي كان يرافق هذا المحقق التافه أثناء تنقّله بين مقرات المسؤولين السياسيين والأمنيين، وبين فنادق بيروت ومطاعمها، من دون أن يجد وقتاً كافياً لتلبية كل الدعوات، متغنياً مع مساعده، الشرطي القذر غيرهالد ليمان، بأنواع النبيذ وثمار البحر على موائد مضيفيه المتزلفين... ناهيك عن مئات آلاف الدولارات التي قبضها مقابل بيع معطيات تخص أعمال لجنة التحقيق الدولية.
لاحقاً، بتنا أمام نموذج آخر مع إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي حوّلت مقراً حكومياً هولندياً إلى محكمة، وجهّزته بما يتناسب وحاجات الرجل الأبيض، بكلفة دفع نصفها اللبنانيون الذين انتظروا سنوات طويلة، قبل أن تصدر قراراً لم يكن أكثر من إعادة صياغة لتقرير أمني أعدّه ضابط في فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي في حزيران 2006. فيما كان القضاة اللبنانيون يعانون الأمرّين.
في زيارة لقاض من مساعدي النائب العام التمييزي، في تلك الأيام، أعدّ القاضي الشاي لضيوفه من براد ماء حُشر بين الملفات، و«ظرف» شاي أخرجه من درج مكتبه الذي وضعت فوقه «بورتوكلي» ضخمة لمفاتيح الخزائن الحديدية والخشبية التي تذكر بمحلات دبوس لبيع الخردوات. يومها قال القاضي متنهداً إن موازنة القرطاسية في المحكمة الدولية تساوي كلفة إعادة تأهيل قصر العدل في بيروت، وإن كلفة المواكب والمرافقين الأمنيين الذين يتحركون مع أي من مندوبي المحكمة تساوي كلفة كل العاملين في النيابات العامة في لبنان.
وها نحن اليوم نعود مجدداً إلى اللعبة نفسها. صحيح أن القضاء اللبناني مصاب بأمراض لا شفاء منها، كالفردية والانحياز وقلة الانضباط وغيرها من السلوكيات التي تطبع الشعب اللبناني، إلا أن ذلك لا يبرر ترك البلاد مفتوحة بهذه الطريقة أمام قضاة ورجال شرطة من بلاد الرجل الأبيض، يستمتعون بكرم الضيافة والإقامة في ربوعنا، ويفترضون أن علينا تنفيذ ما يملونه من دون نقاش، وتلبية طلباتهم من دون سؤال.
ما يحصل اليوم يقضي على ما تبقى من وهم حول سلطة قضائية يمكن الوثوق بها


ليس منا من لا يحمّل القضاء اللبناني، ومن خلفه كل السلطات، مسؤولية تعطيل التحقيق اللبناني في ملف رياض سلامة وشركائه. إذ ما من مبرر لأن لا يكون في لبنان قاضٍ واحد مستعداً لتحمل المسؤولية والادعاء على حاكم مصرف لبنان، فيما هناك جيش من القضاة والإداريين يعملون في خدمة الوفود القضائية الأوروبية. عملياً، على من يهلل لقدوم الوفود القضائية الأجنبية أن يتوقف عن الحديث عن السيادة. وفي المقابل، على المعترضين عليهم أن يعرفوا أن هذا مآل ترك السلطات القضائية تعمل وفق ما تمليه الاعتبارات السياسية. في النتيجة، ما يحصل اليوم يقضي على ما تبقى من وهم حول سلطة قضائية يمكن الوثوق بها، ويفتح الباب مجدداً على أسئلة حول الأحلام التي لا تزال تراود الغرب الأبيض بممارسة الوصاية على هذا البلد المسخ.