«إذا أردت شيئاً بشدة، أطلق سراحه. إن عاد إليك فهو ملك لك للأبد. وإن لم يعد، فهو لم يكن لك منذ البداية»، قول ينسجم إلى حدّ بعيد مع قواعد عالم «كش الحمام». فالكشّاش يشتري طيور الحمام، ويزوّجها على سطح منزله لـ«يعلّقها» به، ويدرّبها على التحليق، ثم يطلق سراحها. إن عادت إليه يكون قد نجح في ترويضها. أما إذا استولى كشاش آخر عليها، فلا يسأل عنها، ولا يتّهم صاحب النصيب بالسرقة، لأن قواعد اللعبة تقول: «عندما يحلّق حمام في الجو لا يعود ملكاً خاصاً». وطبعاً، كما يوجد من يقلب الطاولة عندما يخسر اللعبة أو الرهان، قد تندلع معارك لاستعادة كشّة وماء وجه صاحبها.كشاشو الحمام في الأوزاعي «خير الله»، يجيب صاحب محل مفروشات عندما تسأله عن واحد منهم. يؤشّر إلى السماء حيث سرب الحمام كصفّ العسكر، وإلى بيوتها الخشبية تغزو الأسطح. ثم يرشدك إلى بيت كشاش، واعداً «إذا لم تجديه في منزله، أدلّك على آخر». تصل متأكداً أنك لم تضلّ الطريق، فلكشاشي الحمام عالمهم الخاص. على سطح بناء قديم، يجلس رجل ثلاثيني على كرسي سارحاً في طيور الحمام التي تحوم من حوله، يرمي حبّات الذّرة البيضاء والصفراء أرضاً، فتهبّ لالتهامها، فيما تنتظر أخرى في الأقفاص موعد حريتها ساعة الكش عند التاسعة من كلّ صباح.
يستهلّ كشاش الحمام حديثه بتقديم صكّ براءة: «لسنا غشاشين ولا كذابين ولا عواطليّة». ثم يروي أصل المقولة المعروفة بأن شهادة الكشاش في المحكمة غير مقبولة. «إنها قصة قديمة من سوريا تتحدّث عن كشاش حمام تم استدعاؤه ليدلي بشهادته في المحكمة، وعندما سأله القاضي عمّا شاهده، أجابه: «صحيح أنني كنت في مسرح الجريمة لكنّ عينَيَّ كانتا على السماء… يعني ليس لأنه غشاش أو كذّاب». لا يخجلون كونهم كشّاشي حمام أبداً، لكنهم يرفضون مناداتهم بهذه التسمية لأن الصورة النمطية التي يحاولون كشّها عنهم تجعل الصّفة «مذمّة مستفزّة».

ما هو كش الحمام؟
يتساءل كثيرون عن ماهية كشّ الحمام، وما إن كانت هواية أو مصلحة. عن ذلك يجبينا أحد الكشاشين الذي بدأ الكشّ كهواية منذ كان في العاشرة من عمره، ويمارسها ساعة في الصباح قبل التوجّه إلى عمله: «هي في الأساس هواية، البعض يدمنون عليها فيقضون ساعات على الأسطح من دون أن يشغلهم أي عمل آخر، والبعض يتخذها مصلحة من أجل المنفعة المادية فيتاجر ببيع الحمام وشرائه». ويميّزها عن تربية الحمام التي تقتصر على الاهتمام بطيور الحمام وتزويجها في سبيل التكاثر: «كشّ الحمام يعني إطلاق العنان لها لتحلّق في الجوّ ثم تعود إليك». وليست «المتعة» المرجوّة من هذا النشاط إفلات الحمام فحسب، بل «تتبّع السّرب يحلّق ويلمع في الأفق، وإضاعة حمام اختلط بسرب آخر، وانتظار عودته بفارغ الصبر والتعرّف إليه آتياً من البعيد».

عالم معقّد
ليس كش الحمام نشاطاً بسيطاً، بل عالم معقّد له قواعده وأصوله وأخلاقه، إذ لكلّ كشاش وقت يصفر فيه يومياً ليطلق «كشته». ومهما اختبأ أبناء مجتمع الكش خلف التسلية والمتعة، يبقى الاستيلاء على طيور الغير هو الهدف الصريح. كثيراً ما يعود السرب ناقصاً طيراً أو اثنين، يلتقطه كشاش لا يعرف صاحبه فيستولي عليه، وحتى إذا عرف هوية الطير قد يقرّر الكشاش إفلاته أو «اللّعب بالنّار». وهذا يتوقف على أخلاقه وتصنيفه في مجتمع الكش. فهم ليسوا سواسية. «هناك من يحبّ أن يكش للكيف، أو لتعكير مزاج الآخر، أو للتسلية فيبرم اتفاقاً مع آخر ويكشان في الوقت ذاته فيكون التحدي بالتراضي».

اتفاقيات: «صيد» أو «صلح»
نعم، الأمر كله يرتبط بالاتفاقيات. من يردْ أن يتسلى يتفقْ مع آخر على الكش في الوقت ذاته وتسمى العلاقة بينهما «صيداً»، أما إذا اتفقا أن يكونا «صلحاً» ويكشّا في أوقات مختلفة ونكث أحدهما بالاتفاق، أو أنكر أن الطير حط عنده إما أن تُفتح جبهة لإطلاق الأسير أو يسكت صاحبه عن حقه تداركاً للنزاع.
تُبرم هذه الاتفاقيات غالباً خلال لقاء لمجتمع الكش. أحد الأماكن التي تجمعهم هو مقهى الحلبي في محلّة الكولا الذي تلفّ زواياه أقفاص الحمام المعروضة للبيع والشراء، وتتوسطه طاولات وكراس. يدور الحديث في ما بينهم حول التحدّيات: «أنت اليوم أفلت وأنا أفلت عليك. أخذت منك هذا الطير... راقبت ذلك الطير لقد نزل إلى المكان الفلاني ولم يكمل طريقه»… ولا يخلو الأمر من الاستهزاء والمفاخرة بحصيلة اليوم.
يدافع الكشّاشون عن هوايتهم بالقول إن الحمام يهرب من الطائرة


في عالم الكش قاعدة أساسية، وهي: «عندما يحلّق طائر في الجو لا يعود ملكاً لأحد، قد يعود أو لا يعود». لذلك، مهما حصل، كلمة «سرقة» ليست واردة في قاموس الكشّاشين «لأنّ كل شيء متفق عليه». وطبعاً، لا يلتزم الجميع بهذه القاعدة. من هنا تكمن مهارة الكشاش في تعليم الحمام طريق العودة إلى عشه، فلا تضلّه مهما اخترقه سرب آخر. يشبّه أحد الكشاشين ذلك بتربية الخيل «حتى يصبح قوياً ولا يذهب إلى حضن آخر»، مؤمناً بالحظ: «هناك حمام يكون نعمة زائدة وخلقة حلوة، وحمام غشيم أينما وجد طائراً يشبهه يلحق به». وطبعاً «للضابط مسؤولية في تلقين الحمام تدريباً جيداً للتحليق مسافات طويلة والمحاربة عند اختراق سرب آخر والعودة بسلام».

الكش يزعج الطائرات؟
يتلقّى كشاشو الحمام، جيران المطار، منذ سنوات طويلة، إنذارات من البلديات ويتعرّضون لمطاردات من القوى الأمنية للتوقف عن الكشّ لما فيه من إعاقة لحركة الطيران. يذكر أحدهم كيف خبّأ الحمام قبل عشر سنوات عندما سمع عن «كبسة». بهتت رحلة المطاردة اليوم مع التفلت الأمني، لكن في كل مرة يُطرح فيها الموضوع على الكشاشين يصرّون على أن «الدولة تتبلّى عليهم، فطائر الحمام يهرب من الطائرة ولا يقترب من مسارها. وفي حين تعلّق على الحمام تترك طيور النورس تسرح وتمرح عند مكب خلدة، علماً أن الأخيرة يبلغ حجمها نحو أربع مرات حجم طائر الحمام، ومعروف عن النورس أنه طائر لا يهرب ويطير ببطء».