يعتمد لبنان في تنظيم إنشاء الجمعيات على قانون صدر عام 1909 ولا يزال يُعمل به حتى يومنا هذا. بمعنى آخر، إن صدور قانون الجمعيات في لبنان سابق لنشوء دولة لبنان في شكلها الحالي. رغم تزايد عدد الجمعيات في السنوات العشر الأخيرة بشكل ملحوظ لتُجاوز الـ 11 ألف جمعية مسجلة في وزارة الداخلية، في ظاهرة نادرة في معظم دول العالم، ورغم أن الأهداف المعلنة لهذه الجمعيات هي تحسين الوضع الاجتماعي والصحي والتعليمي والبيئي وغيرها، ما يعني المقيمين في لبنان، إلا أن الواقع يزداد سوءاً بشكل عام. وفي المقابل، تظهر شريحة جديدة في المجتمع من العاملين والمنضوين ضمن وظائف متنوعة مع الـNGO، يتقاضون رواتبهم بالعملة الصعبة وبفضلهم تصمد العديد من الأسر في ظل الأزمة الحالية. هذا القانون، ورغم مرور أكثر من مئة عام عليه، إلا أنه في جوهره قانون عصري، لجهة حماية حق الأفراد في إنشاء الجمعيات من دون أي رقابة مسبقة من قِبل الحكومة والاكتفاء بإعلام وزارة الداخلية بتأسيس الجمعية ومكانها وأهدافها وأسماء المؤسسين من خلال «علم وخبر» وليس طلب ترخيص. حيث بإمكان مؤسسي الجمعية العمل فوراً، من دون حاجة للانتظار حتى صدور مرسوم تسجيل العلم والخبر. إلا أن القانون نفسه يحتوي على ثغرات كبرى، خاصة لجهة عدم التفريق بين الأحزاب السياسية والجمعيات، وهو بحاجة إلى تعديل وقوننة لهذه الجهة وضرورة الفصل بين الأحزاب السياسية والجمعيات، أو بإقرار قانون خاص بالأحزاب السياسية. كما بات من الضروري جداً، مع تزايد عدد الجمعيات وتوسّع عملها، عدم اقتصار الرقابة على الرقابة الشكلية فقط من خلال المستندات التي تقدمها الجمعيات. إذ إن غيابها أدى إلى انحراف العديد منها عن أهدافها المعلنة خدمة لمصالح شخصية أو حزبية. (راجع الأخبار: "الداخلية تشدّد الرقابة على الجمعيات: ضبط التفلّت أم مصادرة حريات؟"، عدد 17 تشرين الثاني 2018) في ملحق «القوس»، نضيء على النقاط التي يجب تعديلها لسدّ الثغرات الموجودة في القانون، خصوصاً لجهة الخلط بين الحزب السياسي والجمعية، وتفعيل الشق الرقابي اللاحق بشكل عادل ومنصف بعيداً عن أي استنسابية، بعد أن بات معروفاً ومكشوفاً حجم التمويل الضخم الذي يوضع في تصرف الجمعيات في لبنان من دون أي حسيب أو رقيب، وخدمة لأجندات خارجية وداخلية متعددة. (راجع الأخبار: "«مكرمة» سوروس: لبنان أولاً | 50 مليون دولار في تصرف الجمعيات"، عدد 14 كانون الثاني 2022)
(هيثم الموسوي)

رغم ما مرّ على لبنان من حروب وويلات وأزمات اقتصادية، إلا أن الموظف في القطاع العام ظل قادراً على تأمين الحد الأدنى من استقراره الأُسري. لكن ما نشهده منذ سنتين تقريباً جعل من القطاع العام، بكلّ فئاته، في مهب الريح. وبات أفضل راتب لا يتخطى ما يعادل الـ200$ ولا يكفي لتأمين الضروريات أو فاتورة اشتراك الكهرباء، وانقلب ستر الوظيفة إلى انكشاف غير مسبوق، بعدما كانت الوظيفة في القطاع العام عامل أمان واستقرار إلى حد كبير. قدّم المئات استقالاتهم، أو بحثوا عن عمل إضافي إلى جانب الوظيفة بعدما سمحت الدولة للموظف الحكومي بالعمل في مهنة أخرى (حتى المؤسسة العسكرية سمحت للعسكر بالعمل الإضافي) الأمر الذي كان ممنوعاً سابقاً إلا بحدود معينة، وذلك لتحسين وضعهم المعيشي. كل هذه الظروف التي ترافقت مع الأزمة السورية في السنوات العشر الأخيرة، واكبها انتشار كبير لظاهرة الجمعيات المدنية التي توسّعت بشكل كبير حتى كادت تصبح بديلاً عن مؤسسات الدولة. ليس لناحية تقديم الخدمات على اختلاف أنواعها وحسب، إنما من خلال سعي المواطنين والأجانب المقيمين للعمل ضمن صفوفها لضمان أجر مرتفع بالعملة الصعبة، لا يهتز مع أي اهتزاز للوضع الاقتصادي الداخلي. وبات العمل في الـNGO حلم فئات المجتمع كافة على اختلاف اختصاصاتهم وخبراتهم وأعمارهم، فهناك عمل للجميع والمجال مفتوح لهجرة موظفي القطاع العام من مؤسسات الدولة والمؤسسات العامة إلى الجمعيات غير الحكومية.

«المجتمع المدني» سيف ذو حدين
الانتشار الواسع للجمعيات في لبنان هو سيف ذو حدين، ويفسّر سبب وجودها في اتجاهين معاكسين، الأول إيجابي يُظهر مدى انفتاح المجتمع اللبناني على أهمية العمل العام ونشر ثقافة التطوع بشتى المجالات وانتشار ظاهرة التوعية الحقوقية والاجتماعية والبيئية والتنموية، خصوصاً بين فئة الشباب. أما الاتجاه الثاني فسلبي يُظهر غياب مؤسسات الدولة في شتى المجالات الصحية والتعليمية والبيئية والتنموية والاجتماعية والرعائية، الأمر الذي شرّع الأبواب لعمل الجمعيات في العديد من العناوين وسهّله نتيجة القانون المرن بعد أكثر من مئة عام عليه، وغياب الرقابة اللاحقة التي نصّ عليها القانون نتيجة الإهمال الوظيفي بشكل عام وسياسة غض النظر في معظم الأحيان.

«مرّقلي تمرّقلك»؟
نصّ الدستور اللبناني على أن «حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة وحرية الطباعة وحرية الاجتماع وحرية تأليف الجمعيات كلها مكفولة ضمن دائرة القانون» (المادة 13). هذا يفسّر أن كل حرية مقيدة بحدود موجب الالتزام بالقواعد العامة، وعدم مخالفة القوانين والأنظمة المرعية الإجراء وفقاً لكل نظام، وأن التأكيد على هذا الحق ضمن دائرة القانون لا يعني خروج الجمعيات عن رقابة الدولة المباشرة وغير المباشرة، لأن كل حرية مقيّدة باحترام النظام العام وعدم مخالفة القوانين المرعية الإجراء. فهل تقوم الدولة اللبنانية من خلال الإدارات المعنية بالدور الرقابي الذي يحمي وينظّم عمل الجمعيات بما تيسّر في هذا القانون وما تبعه من مراسيم؟ أم أن هذه الرقابة باتت تحكمها آليات الفساد المعروفة على قاعدة «مرّقلي تمرّقلك»؟

جمعيات مشبوهة؟
سُجّل في وزارة الداخلية والبلديات، بحسب تصريح لوزير الداخلية السابق محمد فهمي خلال مقابلة تلفزيونية (قناة الجديد) في 13 كانون الأول 2022، نحو 11500 جمعية، الفاعل منها بين ستة آلاف وسبعة آلاف جمعية. وأوضح فهمي «أن نصف الجمعيات الفاعلة تعمل تحت أجنحة أجهزة مخابرات دولية من أجل أهداف سياسية معيّنة لخلق فتن معيّنة ضد لبنان».
هذا الواقع يُضاف إليه ما يجري على الساحة اللبنانية خلال آخر عشر سنوات منذ بدء الحرب السورية تحديداً، باتت تطرح مئات علامات الاستفهام، فهل أصبحت هذه الجمعيات هي الدولة فعلاً وليس فقط نسخة طبق الأصل؟
وصلت الأزمة الاقتصادية في لبنان إلى مكان غير مسبوق، ورغم ذلك ما زال جزء من الشارع اللبناني يتنعّم بالفريش دولار من مصادر متعددة، وبفضله ما زالت الحياة تضج في الشوارع والأسواق والمولات والمطاعم وكأن لبنان بخير ولا أزمات، ولا من يشكون سوى بضعة آلاف من موظفي القطاع العام يحاول معظمهم اغتنام فرصة اللحاق بقطار الـNGO .
وما حصل في 17 تشرين 2019 من انتفاضة شعبية على قرار زيادة بضعة سنتات على الواتسأب لا يوازي ما وصلنا إليه اليوم والدولار على أعتاب الـ50 ألف ليرة ولم يحرّك الشارع نفسه ساكناً. بل هناك شريحة كبيرة تتقاضى رواتبها بالدولار تعيش اليوم في أفضل حال، ولا يقتصر الأجر بالدولار على موظفي الجمعيات خصوصاً تلك التي تقدم مشاريع تمويل لجهات خارجية، بل يتخطاها إلى الأحزاب السياسية التي تخضع أيضاً لقانون الجمعيات وتمويلها ضخم من دون أي رقابة عليها.
هذه الفئة من الشعب اللبناني والمقيمين ليست قليلة، وهي من تترجم على الأرض واقعاً مغايراً تماماً لما يعانيه موظفو القطاع العام والعاطلون عن العمل وبعض الفئات التي لم تزدد إلا فقراً.

الحاجة إلى تنظيم وقوننة
ليست المرة الأولى التي تُنشر فيها مقالات تتناول عمل الجمعيات المدنية، ولا شك أن الجانب الإيجابي لهذه الجمعيات والمنظمات كبير جداً في سدّ كثير من الثغرات التي خلّفها غياب المؤسسات الحكومية عن القيام بوظائفها الأساسية تجاه المواطنين والمقيمين.
إلا أن غياب الجانب التنظيمي لعمل هذه الجمعيات والمنظمات وعدم وضع ضوابط لها، مردوده سلبي على الجمعيات نفسها وعلى المجتمع ككل، وترك ساحة العمل الاجتماعي مكشوفة من دون أي ضوابط بات أمراً خطيراً لتمرير أجندات خارجية، ظاهرها اجتماعي تنموي بينما باطنها أو حقيقة أهدافها تطويع المجتمع وربطه بمقدم الخدمات الضرورية، التي هي بالأصل الرابط بين مؤسسات الدولة والمواطن من خلال علاقة تبادلية مبنية على مبدأ احترام الحقوق والواجبات.
معظم موظفي القطاع العام يحاولون اغتنام فرصة اللحاق بقطار الـNGO


مع هذه الفوضى التنظيمية، ينقلب دور المجتمع المدني من تنمية المجتمع وتعزيز قدراته من أجل الصالح العام ليصبح مجتمعات موازية لكل منها مصالحها وأجنداتها الخاصة التي لا تصب في خدمة المصلحة العامة، إلا في بعض العناوين العريضة التي تستخدم في كتابة المشاريع لإرضاء المموّل من دون دراسة فعلية لحاجات المجتمع وضرورة الحفاظ على خصوصيته وعاداته وتقاليده والمبادئ العامة التي أكد عليها الدستور منذ نشأته.
لذلك، بات من الضروري ضبط عمل الجمعيات على اختلافها لأهميته ولخطورته في آن معاً، حيث إن تقييد عمل المجتمع المدني هو ضرب لأسس النظام الديموقراطي من جهة، وتركه متفلتاً من كل الضوابط ضرب للاستقرار ومخالفة للنظام العام من جهة أخرى.
إن الرقابة اللاحقة لعمل الجمعيات التي نص عليها قانون الجمعيات الصادر عام 1909 (راجع صفحة 6)
والقوانين والمراسيم اللاحقة بحاجة إلى تعديلات تواكب التطور السريع لعمل هذه الجمعيات وتوسّعها، إضافة إلى الرقابة المالية التي تعتبر الأخطر في هذا العمل، خصوصاً أن العدد الأكبر من هذه الجمعيات تقدم مشاريع وهمية أو بمعظمها وهمية وتحصل على أموال طائلة لا تدفع عليها أي ضرائب أو رسوم مع الأخذ في الاعتبار حجم عمل كل جمعية وقيمة الأموال التي تصل إليها ومصدرها.

بات العمل في الـNGO حلم فئات المجتمع كافة على اختلاف اختصاصاتهم وخبراتهم وأعمارهم، للتنعّم بالفريش دولار


إن سهولة تأسيس الجمعيات في لبنان وغياب تطبيق الرقابة للتأكد من حقيقة عمل هذه الجمعيات ومدى التزامها بالقوانين والأنظمة، التي تفرض إجراء انتخابات دورية وتقديم لوائح بأسماء المتطوعين والالتزام بتوزيع المهام وتقديم كشوفات عن مداخيل ومصاريف الجمعية بشكل شفاف وواضح، أدى إلى ما نشهده من فوضى في العمل الاجتماعي التي وصلت إلى حد النصب والاحتيال باسم العمل الخيري أو الاجتماعي. لذلك فإن إلقاء الضوء على هذا الجانب من العمل الاجتماعي هو بهدف توجيهه وتصويبه لتقديم أكبر فائدة ممكنة للمجتمع وليس بهدف التضييق على عمل المجتمع المدني.
هذا الأمر من المفترض أن يكون مطلباً لكل الناشطين في العمل العام، وهدفهم فعلاً التكامل مع مؤسسات الدولة لبناء وتطوير المجتمع ليصبح أكثر قدرة على معرفة حقوقه من دولته وفي المقابل معرفة واجباته اتجاهها للوصول إلى الوطن الذي نحلم به.
فالمطلوب مجتمع مدني يعمل بالتوازي مع مؤسسات الدولة لبناء وتحصين المجتمع ليصل بالنتيجة إلى وطن يحميه بكافة احتياجاته.



حزب بلباس جمعية خيرية
بالرغم من أن قانون الجمعيات نصّ على عدم جواز تأليف جمعيات دينية أو سياسية أساسها الجنسية أو القومية (هناك عدد من الأحزاب اللبنانية أساسها عقائدي قومي)، إلا أن أوّل الجمعيات التي ظهرت في تاريخ لبنان منذ نشأته كانت الجمعيات الطائفية. ومع بداية الحرب الأهلية عام 1975 بدأت تظهر جمعيات سياسية (الأحزاب) وهي من حيث المبدأ مخالفة لقانون الجمعيات كما سبق وذكرنا، لأن معظم الأحزاب السياسية قائمة على الفكر العقائدي، وهي ليست جمعيات خيرية أو ثقافية، ومن المفترض أن يشرّع لها قانون خاص (المادة 4 من القانون) وإن حاول مؤسسوها تقديم أوراقهم على أساس أنها جمعيات ثقافية وتتعاطى الشأن العام .خلال الحرب الأهلية ظهرت الجمعيات التطوعية التي حاولت التخفيف من أعباء غياب مؤسسات الدولة، وكان معظمها يركز على الأنشطة الصحية والخدماتية التي يحتاجها الناس في زمن الحروب، ومع بداية التسعينيات تحوّل عمل الجمعيات من تأمين الخدمات الطارئة والضرورية إلى العمل الإنمائي الذي توسعت أهدافه وعناوينه وباتت أكثر تركيزاً على كل ما هو مرتبط بحقوق الإنسان والبيئة.


في قبضة المموّل
مؤسسات الدولة المكلفة تطبيق القوانين وتنظيم عمل جمعيات المجتمع المدني وتدقيق حساباتها لمعرفة ما يدخل إليها وكيف يتم إنفاقه، هي نفسها غارقة بالتمويل الخارجي بحجة التأهيل والتدريب والصيانة، غير القادرة عليها ميزانية الدولة الرسمية (ولسنا هنا بمعرض الحديث عن الهدر والفساد في هذا الملف). حتى بات مشهد لافتات كُتب عليها «بدعم من USAID» داخل وزارات الدولة والمؤسسات التابعة لها أمراً طبيعياً ولا يطرح أي علامات استفهام، فنراها في وزارة الداخلية وكل ما هو مرتبط فيها من أماكن احتجاز وسجون، أو في وزارة العدل وكل ما هو تابع لها، وفي وزارة التربية وغيرها من المؤسسات الحكومية التي باتت مكشوفة بالكامل مع كل وثائقها ومستنداتها وداتا معلوماتها أمام من يقف خلف هذا التمويل والمسؤول بشكل مباشر وغير مباشر عن شلّ مؤسسات الدولة وغياب دورها لصالح خصخصة كل شيء وتحويل الدولة اللبنانية إلى شركة خاصة يتحكم فيها أصحاب النفوذ كلّ بحسب قدراته.
وفي غياب القوانين التي تضبط وترعى عمل هذه الجمعيات والجهات الممولة لها وفي ظل فساد مستشر في كل مفاصل الدولة باتت «ثقافة الفساد» تميز المجتمع اللبناني الرسمي والشعبي في آن.