على مدار عام تقريباً، قدّمت «القوس» في قسم المختبر الجنائي مقالات علمية متخصّصة، تناولت أحدث أساليب التحقيقات الجنائية التي يمكن، إلى حد كبير، أن تساعد العاملين في نظام العدالة الجنائية لجلاء الحقيقة ومنع إفلات المجرم من العقاب وتحقيق العدالة، واستعادة بعض الثقة بالمؤسسات التي تنهار على وقع الفوضى.لا تتطلّب الحقيقة العلمية الكثير من «المال»، لكنها تستدعي الكثير من الكفاءة والوقت والشغف. والبحث عن بقع الدم التي جرى مسحها من مسرح الجريمة لا يتطلب معدات باهظة الثمن. كما أن تطبيق التحليل الجنائي للبقع أو الانسيابات الدموية بهدف التعرف إلى أنماط البقع الدمويّة وتحليلها لتقديم التفسير المنطقي للأحداث الديناميكية التي أدّت إلى نشأتها، وكيف حصلت الجريمة وما لم يحصل حين وقوعها، عمل شاقّ وطويل يستدعي كفاءة عالية، لكنه لا يتطلب أدوات ومعدات بـ«الدولار الفريش».
عملية تقصّي آثار اليدين، على سبيل المثال، تُعتبر من أهم الطرق التي يلجأ إليها الخبراء الجنائيون لتحديد المرتكب المحتمل للجريمة، إلا أنه في لبنان نكتفي بمسح اليدين لرفع عيّنات مخلّفات إطلاق النار حصراً، في حين يتم إهمال الأدلة الأخرى التي يمكن أن تحملها الأظْفار من دماء وتربة وشعر وألياف وغيرها. ولا يبدو أن استخراج الأدلة من تحت الأظْفار ومعالجتها بالطرق المناسبة عملية مكلفة، إلا أن ذلك الأمر يستلزم أن يكون المحقّق شغوفاً بعمله.


في حالات الاختناق، إما بسبب الشنق أو الخنق، فإن فحص علامات الرباط وتحليل المعلومات المقدّمة منها ومعاينة العقدة يمكن أن يكون كلُّ ذلك الدليل الوحيد المتاح في بعض الحالات للوصول إلى السبب الأكثر احتمالاً للوفاة (قتل عرضي/انتحار). لكن، في لبنان، لا نزال نعطي أهمية كبرى أثناء التحقيقات لآثار العنف والكدمات على جسد الضحية للتفريق بين الموت الانتحاري والجنائي، ونهمل تماماً «علامات الرباط» الناتجة عن الحبل أو السلك أو المواد التي استُخدمت.
إضافة إلى ذلك، تزداد ظاهرة إطلاق النار العشوائي في ظل غياب رادع حقيقي وقوي يمنع المرتكبين. وحتى اللحظة، لم يتم الاعتماد على العلم الجنائي البالستي أثناء التحقيقات، بهدف تحديد مسار الطلقة وموقع مطلق النار وتقديمه إلى العدالة. كل ما يتطلبه الأمر من المحققين استخدام جوانب تقنية مثل مسار الطلقة ومكان وجود الرصاصة والمظاريف الفارغة بشكل أساسي.

«الجسم اللبّيس»
بعد ساعات فقط من حدوث أي جريمة، يستعجل الجميع في إطلاق الأحكام المسبقة التي تسبق في بعض الأحيان تقرير الطبيب الشرعي أو مكتب الحوادث التابع للشرطة القضائية. لذلك، يُفترض أن نكون على دراية بخطر التوصّل إلى استنتاجات مستعجلة، والتي قد تُصعّب لاحقاً الوصول إلى الحقيقة. فإن استعجال الخلاصات والاتهامات والإدانات وتسريب التحقيقات، يعرقل وينسف نتائج المباحث العلمية ويقلّل من قيمتها، ويشرّع الإفلات من العقاب.
تطبيق التحليل الجنائي للبقع الدموية عمل شاقّ وطويل يستدعي كفاءة عالية، لكنه لا يتطلب أدوات ومعدات بـ«الدولار الفريش»


وعادة ما يختار مطلقو تلك الأحكام، الأشخاص/ الفئات التي «جسمها لبّيس». ففي آخر الأحداث، قُتل جندي أيرلندي من بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان، وسرعان ما تمّت إدانة حزب الله حتى قبل أن يباشر أيّ من فريق التحقيقات اللبناني أو الأيرلندي الكشف على مسرح الجريمة وضبط الأدلة المادية.

الضغوطات تزداد على المحقّقين
في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية، وانهيار قيمة الرواتب بالليرة اللبنانية، والشلل الحاصل في مرفق العدالة، وانعدام الثقة بمؤسسات الدولة، تزداد الضغوطات على عمل المحققين، إضافة إلى قلة الموارد البشرية في هذا القطاع وتدني مستوى الخبرة المهنية والكفاءة العلمية. تلك العوامل وغيرها يمكن أن تحول دون الوصول إلى المحاكمة العادلة، وإحقاق الحق.
من الأساسي تحسين الظروف الاقتصادية والمعيشية للمحققين من أجل ضمان نزاهة وحيادية وموضوعية التحقيقات العلمية. كذلك، إن اختيار المحققين تبعاً لكفاءتهم وشغفهم، بعيداً عن الاعتبارات الطائفية والقوالب النمطية، خطوة أساسية لتفعيل دور المباحث العلمية لكشف الحقيقة وتعزيز معايير العدل والإنصاف.



أحدث تقنيات التحقيق

تقنية ثلاثية الأبعاد لتحديد الـ Physical fit
غالبًا ما يتلقّى الخبراء الجنائيون أدلة مادية تحتاج إلى إعادة تجميعها معاً. وهذا ما يُسمى الملاءمة المادية Physical fit، وهي طريقة معروفة لتحديد ما إن كانت قطعتان من المصدر نفسه، يمكن أن تكون هذه الأدلة مجموعة متنوّعة من المواد، وغالباً ما تكون هشّة نسبياً مثل العظام. استخدمت دراسة حديثة في جامعة في إنكلترا التصوير الثلاثي الأبعاد لتعيين الأبعاد الدقيقة لبعض العظام المحترقة وتم نسخ القطع باستخدام طابعة ثلاثية الأبعاد. وقد مكّن ذلك من تحديد ما إن كانت القطع تتلاءم معاً أم لا من دون الاضطرار إلى الإفراط في التعامل مع الأدلة الهشّة.