داخل أحد الأجنحة في المبنى المُواجه لمبنى الأحداث في سجن رومية، يجلس «رامي» القرفصاء مسنداً ظهره إلى جدار. يرفض الثلاثيني الرد على أسئلة المسؤولين أو التجاوب مع زملائه. يدير رأسه نحو النافذة، مشيحاً بنظره عن إحدى المتطوّعات التي يتحلّق حولها سجناء في «جلسة موسيقية»، يستخدمون فيها الطناجر والملاعق في «العزف»، معبّرين عن سعادتهم بالمتطوّعة التي جاءت مُحمّلة بالحلوى والسجائر.كل هذه الضوضاء لا تُشتّت «تركيز» رامي في الفراغ. عارفوه يُدركون أنّه في مكانٍ آخر. فهو، منذ أُدين بتهمتَي القتل والاغتصاب قبل عامَين، منفصل تماماً عن الواقع وفق ما يُسميه الأطباء النفسيون «الصمت الانتقائي».
رامي ليس حالة فريدة. هناك قصة تُروى لكلّ نزيل داخل المبنى الاحترازي الذي يضم نحو 53 سجيناً، غالبيّتهم يُعانون أمراضاً نفسيّة وعقليّة. ليس للأمر علاقة بالسجن مدى الحياة، باعتبار أن القانون ينص على عدم خروجهم إلا «لحين الشفاء»، إذ إنهم لا يُفرّقون في الغالب بين الحياة وراء الجدران والحياة خارجها.
كثيرون يُشبهون رامي. أحدهم يبرّر قتله والده بأن الأخير «فلّت الخنازير في الغرفة»، وآخر عجوز ينادي متطوّعة شابة بـ«ماما»، وثالث يلوّن دفتر رسومات للأطفال، ورابع يبكي لأنّه لم ينل حصّته من قالب حلوى، وخامس يستيقظ مرعوباً مدّعياً أن زميله في الغرفة يتآمر لقتله...
هذه أحوال المرضى النفسيين والعقليين داخل «المبنى الأزرق» المؤلف من طبقتين عند مدخل سجن رومية. يقيم في الطبقة الأولى من يُعانون أمراضاً نفسيّة أو عقليّة وعدداً قليلاً من مرضى الكلى موزّعين على 14 غرفة، فيما يقيم في الطبقة الثانية نحو 15 مريضاً بالـ«أيدز»، موزّعين على 3 غرف. ويضم المبنى حديقة صغيرة ونظارتين في الطبقة السفلى يستخدم العسكريون إحداهما لتخزين «الحرامات» الشتويّة والشراشف. فيما لا توجد إدارة مباشرة للمبنى الذي يتبع إدارياً لآمر مبنى الأحداث في رومية.
عملياً، لا اهتمام استثنائياً بالسجناء الاستثنائيين. ولا معايير مُحدّدة للعسكريين الذين يُنقلون للخدمة في «المبنى الأزرق» تؤهلهم للتعامل مع السجناء، علماً أن بعض هؤلاء غير قادرين على خدمة أنفسهم بسبب العجز أو التأخر العقلي. بعض مرضى الـ «أيدز» في المبنى يؤكدون أنه «يُمنع علينا الاختلاط مع السجناء الآخرين في الطبقة الأولى، والكثير من العسكريين يخافون الاقتراب منّا أو لمسنا خشية انتقال العدوى إليهم لجهلهم بحقيقة المرض وكيفيّة انتقاله».
أهالي بعض السجناء ممن يعانون أمراضاً نفسية وعقلية يؤكدون، من جهتهم، أن بعض العسكريين يتنمّرون على السجناء المضطربين، «وعندما يتعرّض بعض المرضى لنوبة عصبيّة يقوم العسكريّون بالصراخ عليهم». ويذهب البعض أبعد من ذلك، مشيرين إلى «ضرب مبرح وتعذيب» يتعرّض له المرضى النفسيون والعصبيون بعد نقلهم إلى مباني التأديب. ويقول هؤلاء: «المعاملة أكثر من سيئة. المسؤولون عن المأوى لا عمل لهم سوى إعطاء السجناء حبوب الأعصاب وأمرهم بالنوم». فيما نوافذ المبنى تطل على مولّدات السجن التي تُسبّب إزعاجاً وتوتراً دائمَين.
في المقابل، يؤكد المسؤولون عن المبنى أن «هذه الأمور يستحيل أن تحدث»، مشيرين إلى أنّ «السجناء من المرضى النفسيين، وبعضهم يعاني من فصام حاد (شيزوفرينيا)، يختلقون هذه الأمور ويخبرونها لأهاليهم، كما أن كثيرين من المصابين بالأيدز مدمنون ويتناولون أدوية أعصاب ويقومون باختلاق هذه الأمور». ويؤكد أحد المتطوّعين ممن يزورون المبنى بصورة دوريّة أنّ الوضع «ليس مأساوياً كما يتم تصويره، والمبنى أفضل من بقية المباني في رومية ومن كل السجون الأُخرى، ونحاول تأمين مستلزمات السجناء المادية وحتى العاطفية».
لكن، بعيداً عن الاتهامات ونفيها، المؤكد أننا أمام «مأوى صحي» بلا رعاية صحية! إذ لا وجود لمركزٍ طبي داخل المبنى. ومن يُعانون من أي عارض لا يمكنهم أن يقصدوا صيدليّة مبنى الأحداث بسبب بُعدها، فيكون عليهم انتظار الطبيب المُناوب. وهذا «لا يحضر لمعاينة المريض إلا بعد الاتصال به أكثر من مرة والإلحاح عليه»، بحسب ما يؤكد أكثر من سجين لـ«الأخبار». كما أن «الرعاية النفسيّة معدومة، والأطباء يزورون المبنى مرّة كل شهرين. وغالبيّة الزيارات تكون لتغيير الأدوية أو جرعاتها لا للعناية بنفسيّة السجناء». أما مرضى الـ«أيدز» فيشكون عدم تأمين الفحوصات الدوريّة التي على أساسها يتم إعطاء الأدوية والجرعات والتأكد من فاعليتها لمقاومة المرض. ويؤكد أحدهم أنه لم يخضع لفحص منذ أكثر من عامين، علماً أن المرضى يُفترض أن يخضعوا عادةً لفحصين على الأقل كل عام. وإلى غياب الفحوصات، يشكو مرضى الـ «أيدز» من غياب العناية بالنظافة العامّة والأكل وتلوث المياه، علماً أنّهم يحتاجون إلى رعاية خاصة بسبب نقص المناعة التي يُعانون منها. يقول أحدهم: «كانت بعض الجمعيات تؤمّن لنا مواد التعقيم خلال جائحة كورونا إلا أنّها توقفت عن ذلك. وفيما لا يمكننا تناول طعام السجن بسبب سوء نوعيتها، يُمنع أهلنا من إدخال الأكل».
يؤكد رئيس جمعيّة «عدل ورحمة» الأب نجيب بعقليني انعدام الفحوصات الطبيّة لمرضى الـ«أيدز»، عازياً ذلك إلى تمنّع إدارة السجن عن إدخالها لاحتوائها على مواد ممنوعة. ويوضح لـ«الأخبار» أنّ «هذا الأمر تم حلّه مع إدارة السجن وسنقوم بإجراء الفحوصات للسجناء قريباً». يقر بعقليني بأن «هناك تقصيراً، لكنّه ليس مقصوداً، وسببه الأوضاع التي يمر بها لبنان. إذ إن أدوية كثيرة مقطوعة من الصيدليات فكيف الحال داخل السجون». ويلفت إلى أنّ طبيباً نفسياً من «عدل ورحمة» يتردّد دورياً إلى المأوى الاحترازي للإطلاع على أوضاع السجناء ويعدّ تقريراً بعد الزيارة.
وتلفت نائبة رئيس جمعية لجان أهالي الموقوفين رائدة الصلح إلى أن كثيراً من السجناء في هذا المبنى لا يزورهم أحد، إما لوفاة معظم أفراد عائلاتهم أثناء وجودهم داخل السجن أو لأنّ أهلهم تبرّؤوا منهم، خصوصاً أن عدداً منهم موجودون هنا لقيامهم بقتل أفراد من عائلاتهم كأمهاتهم أو آبائهم أو أشقائهم. وبالتالي، لا مُعيل لهؤلاء سوى الجمعيات التي تؤمن لهم حاجاتهم.

«السجن حتى (لا) الشفاء»
عام 2016، خرج أقدم سجين في لبنان محمد نور الدين عيتاني من السجن بعد 38 عاماً وراء القضبان تنفيذاً لحكم صدر في حقّه بناء للقانون (صادر عام 1943) بالبقاء في المأوى الاحترازي «إلى حين الشفاء».
لم يخضع عيتاني لمعاينة طبيب خلال سنوات حبسه، وما من تقرير طبي عن صحته النفسية. بقي خلف القضبان إلى أن خفّض القاضي حمزة شرف الدين (كان يرأس إحدى لجان تخفيض العقوبات في حينه) عقوبته وأخرجه من السجن قبل أن يتوفّى عيتاني إثر إصابته بكورونا خارج السجن. عيتاني واحدٌ ممن «حالفهم الحظ» بالموت خارج السجن. إذ إن من يرتكبون جرائم بدافع مرض نفسي أو عصبي يبقون داخل المأوى الاحترازي، ويرفض معظم القضاة إطلاقهم بحجّة أنّ لا شفاء من هذا الاضطراب وأنهم يُشكّلون خطراً على المجتمع. وفيما يجيز القانون نقلهم إلى مصحة عقلية بيْد أنّ لا مصحات تابعة للدولة، فيما المصحات الخاصة إمّا ذات كلفة باهظة أو أنها لا تتمتع بمعايير عالية. تقول والدة سجين نجحت في نقله إلى مصحة في الكورة لـ«الأخبار»: «لم يُعاملوه جيّداً، بل كانوا يُقيّدونه ويمنعونني من مقابلته، لكنني قبلت بذلك لعدم إعادته إلى المأوى الاحترازي حيث لا رعاية متخصّصة. وهو بالفعل عاد إلى المأوى بقرارٍ قضائي»، لافتةً إلى أن القاضي «لم يأخذ في الاعتبار التقارير الطبية التي أكّدت أن ابني تحسّن ولم يعد يُشكّل خطراً على المجتمع، وارتأى بإبقائه في المأوى الاحترازي».
وقد أُنشئ المأوى الاحترازي عام 1994 بعد موافقة مجلس الوزراء بناء على قانون العقوبات والمرسوم 1038 تاريخ 1950.
ويشير القاضي شرف الدين في نشرة تم إصدارها بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي و«المركز اللبناني للعلاج بالدراما» وعدد من المعنيين بواقع السجناء ذوي الأمراض النفسية أو العقليّة في لبنان ووضعهم تجاه القوانين الجزائية اللبنانية في ضوء القوانين المقارنة، إلى أنّ «قانون العقوبات اللبناني صدر بالفرنسية وترجمت نصوصه إلى العربيّة، ولم تكن الترجمة موفقة في بعض الأحيان، إضافة إلى استعماله كلمات غير مقبولة في الطب الحديث». إذ تُرجمت عبارة alienation mentale بكلمة «جنون»، وعبارة «deficience mentale» بكلمة «عته» وعبارة «psychopathe» بكلمة «ممسوس»، مشدداً على «ضرورة تعديل قانون الصحة العقلية مع تعديل القوانين الجزائية المتعلقة بالمرضى النفسيين أو العقليين تماشياً مع مبدأ تطور القوانين والمفاهيم، خصوصاً أن النصوص الجزائية ذات الصلة لا تزال كما هي منذ أكثر من 70 عاماً».
ويتناول شرف الدين في دراسته الجهود التي بُذلت في العمل على مشروع تعديل عصري ومتكامل للمرسوم الاشتراعي رقم 72 تاريخ 9/9/1983 لرعاية المرضى العقليين وعلاجهم وحمايتهم. إلا أن هذا المشروع توقّف العمل عليه، بحسب النائب السابق غسّان مخيبر، موضحاً أن الاقتراح عالق في لجنة الصحة النيابية منذ ما قبل الانتخابات النيابية.
مأوى صحي بلا رعاية صحية وكثير من السجناء في هذا المبنى لا يزورهم أحد


شرف الدين الذي كان منتدباً من وزارة العدل لمتابعة التعديلات على القانون، يوضح لـ«الأخبار» أنه «بموجب القانون الحالي لا يُمكن لأي سجين أن يخرج من المأوى وحتى ولو استقر وضعه أو تم نقله إلى مركز طبي متخصص، لأن المُعضلة تكمن في ما نص عليه القانون بأن السجين لا يخرج إلا لحين شفائه، في حين أن المريض النفسي لا يُشفى بشكلٍ كامل»، مشدداً على ضرورة إقرار تعديلات على القانون تتيح خروج السجناء إلى منازلهم أو إلى مصحات عقليّة، وعلى ضرورة تأمين الرعاية الصحيّة للسجناء في المأوى وخصوصاً أن وزارة الصحة التي ألزمها القانون بتقديم الرعاية الطبية ومستلزماتها، غائبة عن المأوى الذي بات ينتظر مساعدات الجمعيات الحقوقية.
ويطالب شرف الدين بـ«تحسين الظروف المعيشية وإجراء صيانة دوريّة للمراحيض وشبكتي الكهرباء والمياه والتدفئة»، لافتاً إلى أن «لا رقابة فاعلة داخل المبنى للتأكّد مما يتم تناقله عن وجود فوضى أو تعذيب يُمارس بحق السجناء، إضافة إلى غياب الأدوية والمستلزمات المعيشيّة».
ومن أبرز التعديلات التي وضعها العاملون على الاقتراح استبدال عبارات «جنون» و«عته» و«عاهة عقلية وراثية أو مكتسبة» بعبارة «انعدام القدرة على التمييز أو التحكّم بالأفعال بسبب مرض عقلي أو نفسي أو نفسي - عصبي»، واستبدال ما جاء في المادة 76 من قانون العقوبات التي تنص على أن «من حكم عليه بعقوبة مانعة أو مقيّدة للحرية أو بالعزلة أو بالحريّة المراقبة أو بمنع الإقامة أو بالكفالة الاحتياطيّة وثبت أنه أثناء تنفيذه الحكم قد أصيب بالجنون حُجز عليه في مأوى احترازي حيث يعنى به العناية التي تدعو إليها حالته»، باقتراح استخدام: «من كان موقوفاً أو من حكم عليه بعقوبة مانعة أو مقيدة للحرية أو بالعزلة أو بالحرية المراقبة أو بمنع الإقامة أو بالكفالة الاحتياطية وثبت أنه أثناء توقيفه أو تنفيذه الحكم قد أصيب بمرض عقلي أو نفسي أو نفسي عصبي، حجز عليه في مأوى احترازي أو في مستشفى للأمراض العقلية والنفسية حيث يعنى به العناية التي تدعو إليها حالته».



«المبنى الأسود»!
كثير من الحكايات يتم تناقلها من داخل المبنى الأزرق. قصصٌ عن تعذيب وعن سجناء أصحّاء نقلوا إلى المأوى الاحترازي لكثرة الإشكالات التي كانوا يقومون بها في المباني الأُخرى.
أحد السجناء في المأوى يؤكد أنّ «العسكريين لا يجرؤون على الدخول إلى أجنحتنا، ويُسلّمون مهمّة ضربنا إلى بعض السجناء البلطجيّة». وهو ما تؤكده والدة السجين محمّد قطيش الذي كان يُعاني اضطراباً نفسياً وقتل والده ببندقية صيد، ومات داخل المأوى. وتوضح أنّها كانت تلاحظ آثار الضرب والتعذيب على ابنها الذي قال لها إن سجيناً يلقّب بـ«ريفو» يضربه وحاول خنقه. و«عندما أبلغت إدارة السجن بالأمر كان الجواب: بدك تتعوّدي شو ما عنا غير ابنك». وقد قصدت مسؤولين للطلب من القضاة إخلاء سبيل ابنها على أن تتكفّل بعلاجه، خصوصاً أن التقارير الطبيّة الصادرة عن أطباء المبنى كانت تؤكد أنه لم يعد يُشكّل خطراً على بيئته، «لكن كلّ الأبواب لم تفلح في إخراجه من المأوى إلى أن تبلّغت في حزيران الماضي أنه توفي بعد نوبة قلبيّة».
تؤكد الوالدة لـ«الأخبار» أنّ ابنها مات قتلاً على يد أحد السجناء وتبرز صوراً تشير إلى وجود آثار تعذيب على جثة ابنها وفقدانه لأسنانه الأماميّة. في المقابل، ينفي المسؤولون رواية والدة قطيش، موضحين أنّ السجين المتهم بقتله خرج قبل موته، وهو ما تنفيه الوالدة، مؤكدة أنّه خرج بعد أيّام قليلة من موت ابنها. وإلى قطيش، يتم تداول أخبار عن وفاة أكثر من خمسة من نزلاء المبنى هذا العام.