في ذاكرة الجنوب، يقبع مرفأ بحريٌّ مهملٌ، تُرك بعد التحرير منسيّاً عند طرف الخارطة. لعلّ الموقع الحدودي لمرفأ الناقورة مع فلسطين المحتلّة كبّده مجافاة الجهات الرسمية المعنية، فغضّت طرفها عنه. وحدهم صيّادو المنطقة ظلّوا يرتادون هذه الرقعة لإرساء قواربهم. أمّا اليوم، فنقمةُ موقعه قد تمسي نعمته، وكلّ الآمال تتجه صوب تبدّل حال مرفأ الناقورة نحو الأفضل بهمّة الترسيم. وصل سقف التمنيات والتوقعات إلى حدّ التسليم بضرورة اعتماده كقاعدة بحرية للتنقيب. غير أنّ إعادة تأهيل المرفأ وفقاً للاستراتيجية الأخيرة لوزارة الأشغال، غير ممكنة بصيغتها النهائية هذه، ليس لجهة ناحية غياب الميزانية فحسب، وإنما لأنها لم تضمن حقوق المالكين للعقارات المحيطة بالمرفأ.
ذاكرة المرفأ
تكاد لا تخلو دار في الناقورة من بحّارٍ أو صيّاد، ممتهناً للصيد كان أو هاوياً له. شغف هؤلاء بالبحر وثماره، يبرّر حتماً اهتمامهم المستمرّ بمرفأٍ يُؤوي قواربهم. ولمرفأ الناقورة حكايات طيّبة تعبق بها أفواه الناقوريين، يروونها على مسامع السائلين بتفاصيلها الشيّقة وكأنها أعظم إنجازاتهم. هو مرفأٌ صغيرٌ ضيّق، بناه أبناء البلدة من أموال صيدهم إبّان الاحتلال عند محلّة الميّاسة، كمرفأٍ رديفٍ لآخر حاوطه مقرّ اليونيفل يوم مجيئها، فاضطرّ الصيادون حينها إلى الاستعاضة عنه بالآخر.
في عام 1981، في عزّ السيطرة الإسرائيلية على المنطقة، شرّع الاحتلال وأعوانه مشروع توسيع المرفأ، ليستوعب سفناً تجارية إسرائيلية تنقل البضائع الإسرائيلية من الناقورة إلى قلب العاصمة اللبنانية. إلّا أنّ الانسحاب الإسرائيلي من بيروت بدّد آمالهم، فاضطرّوا إلى الاستعانة بتجّار لبنانيين متعاملين معهم لتصدير البضائع، أشهرهم أمين الحاج، أحد أكبر التجّار وأهمّهم في تلك المرحلة.
الدواعي التجارية لميليشيا الاحتلال، دفعتها مجدداً إلى توسيع الرصيف الأساسي للمرفأ، ليبغ طوله 100 متر وعرضه 15 متراً بما يضمن استيعاب سفينتين تجاريتين وعبّارة. عرف مرفأ الناقورة حينها التجارة الدولية، حيث كانت تصل إليه سفن تجارية من قبرص، محمّلةً بالبضائع الأوروبية. أمّا رصيف الصيّادين الدائري، فقد بقيت مسألة تطويره رهناً لما يجنيه هؤلاء من أرزاق البحر.
تعتدي خطة تطوير المرفأ على ما يتجاوز الألف متر مربع من عقارات البلدة


بعد التحرير في عام 2000، فقد المرفأ صفته التجارية وغاب عنه الاهتمام الحكومي، على الرغم من إمكانية استغلاله سياحياً. وعلى مرّ الأعوام، بدأت حجارته تتآكل وتتهاوى، إلى أن فقد الرصيف جزءاً مهماً من مقدّمته. حال المرفأ المزرية اليوم جعلت الصيادين يتأففون من الإهمال الرسمي لأحوالهم. يخبرنا أحدهم عن اضطرارهم للسهر بجانب قواربهم في الليالي الشتوية العاصفة خشية تمزق الأربطة وتحطم هذه القوارب: «انكسر السنسول منذ خمس سنوات وإلى اليوم لم يسأل أحد عن الوضع، كان يردّ عنّا سرعة الموج». وعلى مدى الأعوام، بقيت المساعدات الحكومية يتيمة الحال يتقاذفها عباب وعودٍ متكسّرة، ما خلا مبادرة متواضعة عام 2016 لوزارة الأشغال، اهتمّت بتنظيف المرفأ من الرمال والأوساخ وتركيب رافعة صغيرة للمراكب بحسب نقيب الصيادين في الناقورة رياض عطايا. يشير عطايا إلى حصولهم على بعض المساعدات العينية من الجمعيات والمنظمات الدولية في فترات متقطّعة بهدف تحسين حال المرفأ وأوضاع الصيادين، لكنها لم ترتقِ إلى بلوغ الهدف، إذ إنّ هذه المساعدات تفتقر للديمومة ولتحقيق التحسين الجدي. على خطى الترسيم، يأمل الصيّادون أن ينصف نفط البلاد حال مأواهم، ويغدو هذا المرفأ وجهة التنقيب الأولى للبنان، فينتعش وينعش أحوالهم.

«منطقة قيد الدرس»
فعلياً، عرف التاريخ الحديث لمرفأ الناقورة خطتين اثنتين لتطويره ووابلاً من الوعود. الخطة الأولى، وضعتها المديرية العامة للنقل البري والبحري صيف عام 2004. أمّا الثانية، فقد وضعتها المديرية عام 2018، وضجّت الوسائل الإعلامية حينها بمؤتمرٍ صحافي لوزير الأشغال يوسف فينيانوس يعلن فيه عن مخطط تطوير مرفأ الناقورة، ليعود وينصبغ مجدّداً بطابعٍ تجاريٍّ دوليّ. وقد حدّدت الدراسة الجديدة للمديرية العامة «منطقة قيد الدرس» عند محيط المرفأ، مبلغةً بلدية الناقورة بقرارها الذي يعتدي على مساحة مهمة من عقارات البلدة تفوق الكلم مربع (1.093 متراً مربعاً)، جارفًا في دربه أحياء سكنية.
وفي الحديث عن ضرر هذا التصنيف، يشير رئيس بلدية الناقورة عباس عواضة إلى أنّ هذا القرار «يمنع أصحاب العقارات من أخذ رخص بناء على أساس التنظيم المدني، كما يمنع أصحاب المباني من إجراء تعديلات على مبانيهم» لافتاً إلى أنّ عدد المباني المتضرّرة من القرار يتجاوز الـ100 مبنى. بامتعاضٍ شديد يعبّر صاحب أحد المباني عن خيبته لضياع فرصة بناء طابق علوي لابنه: «لم يعطونا رخصة بناء عندما كنّا قادرين على ذلك، اليوم أسعار المواد نار».
اعترضت بلدية الناقورة على هذا القرار أكثر من مرّة طالبةً إعادة النظر في مساحة المنطقة الموضوعة قيد الدرس، وتقليصها إلى النصف تقريباً. غير أنّ طلبها كان يصطدم دائماً بحججٍ رسمية واهية، تتّكئ مرّة على مسألة تصلّب القانون، ومرّة تتغذّى من وحي الأزمات في البلاد. قانونياً، لا يمكن إبطال قرار صادر بمرسوم إلّا بإصدار مرسوم آخر موازٍ له يبطل مفعوله، «وهلّق مش وقته». وعودٌ من زبد تطلقها الجهات المعنية على مسامع البلدية بشأن تعديل المخطط، وتمرّ الأعوام على عجل، ويبقى حال المرفأ في تقهقرٍ مستمرّ.
يلقي التصنيف المذكور بضرره على العقارات الخاصة من دون وجود أي تحرّك جدي لتوسيع المرفأ، إذ تشير آخر المعطيات إلى أن لا ميزانية مخصّصة لهذا الهدف. أمّا عن إمكانية استغلاله كقاعدة بحرية نفطية، فلم يطرأ على مسامع البلدية أي بلاغ رسمي من هذا القبيل، وكلّ ما يُحكى يندرج ضمن إطار التوقعات والتمنيات فحسب.
إذًا، الطريق إلى النفط يُستبعد أن تمرّ عبر مرفأ الناقورة. فلا بشائر جدية تطاول تطوير المرفأ في المستقبل القريب، ولا ميزانية أصلاً مخصّصة لهذا الهدف. بريق الأمل باستغلاله نفطياً ينكمش مع مرور الوقت. أمّا العقارات الخاصة فيبقى مصيرها مرهوناً بالاهتمام الرسمي الجدّي لإنهاء هذا الملف.