تتكلم مع طفل لا يتجاوز السنتين من عمره باللغة العربية، فيردّ عليك بالإنكليزية أو الفرنسية. أو لا يفهم سؤالك قبل أن يتدخّل أحد الأبوين من أجل الترجمة علماً أنّهما لبنانيّان يعيشان في ربوع الوطن، لكنّهما لا يتواصلان مع ابنهما بلغته الأم. يتكرّر هذا الموقف كثيراً اليوم. أطفال لبنانيو الأصل من الجهتين، يعيشون في لبنان، يتحدّثون اللغة الإنكليزية أو الفرنسية بطلاقة أكثر من اللغة العربية، وآخرون كانت حروف اللغات الأجنبية أول ما نطقوا به. تحوّلت هذه المواقف إلى «ظاهرة، إذ يستخدم الأهل اللغات الأجنبية في التواصل مع أولادهم، سواء عبر المحادثة المباشرة، أو قراءة القصص، أو اختيار وسائل تسلية ناطقة بلغات أجنبية»، بحسب المتخصّصة في تربية الطفولة المبكرة مريم رعد، التي ترى في الأمر «نوعاً من التفاضل الاجتماعي ومعياراً للمكانة الاجتماعية».
انطلاقاً من أن اللغة هي عصب الثقافة وطريقة التفكير، تفسّر رعد «ميلنا إلى اللغات الأجنبية أكثر من العربية بانجرارنا وراء الثقافة الغربية، فمثلما نأكل البرغر ونلبس الجينز نحكي ما نراه لغة القوي». يعزّز هذا السلوك «انفصالنا عن هويتنا الثقافية والوطنية. فنحن لا نخجل إذا أخطأنا في نطق كلمة عربية أو استبدال الضاد بالدال عند الكتابة... لكننا نخجل إذا ظهر قصورنا في إتقان اللغة الأجنبية. هذه هي باختصار عقدة النقص الحضاري التي تجرّنا إلى تقليد الغرب».

الجدة لأحفادها: «احكوا معي بالعربي»
بعيداً من «البريستيج»، للأهل تبريرهم خلف سعيهم إلى توريث أولادهم لغات أجنبية. «لمصلحتهم»، يجزمون. فهم، برأيهم، يحجزون لهم مكاناً في سوق العمل عندما يختارون لهم حضانات ومدارس تهتم بتلقينهم «لغة العصر». يحرصون على تعلُّمها وتعليمها لأولادهم بما يسهّل هجرتهم إلى الخارج في ما بعد.
يلحظ البعض منهم تقهقر لغة أولادهم الأم، ويزعجهم ذلك. لكنها نتيجة متوقّعة ما دام الطفل يتعرّض إلى اللغة الأجنبية بشكل مبالغ فيه، ويفوق بكثير تعرّضه للغة العربية. إذ تغيب عن شاشات التلفزة برامج الترفيه للأطفال الناطقة بالعربية، ويقلّ عدد دور نشر قصص الأطفال بالعربية ويبرز ضعفها في التسويق، كما يقضي أطفال معظم وقتهم في مدارس أميركية أو فرانكفونية. عباس (7 سنوات)، مثلاً، يدرس في مدرسة ذات نظام أميركي، ثم يرجع إلى منزله ويتحدث مع عائلته باللغة الإنكليزية. عندما يطلب منه والده استخدام العربية يرمي المسؤولية عليه: «ترسلونني إلى مدرسة نحكي فيها بالإنكليزية كلّ الوقت، أما درس اللغة العربية فيأتي في آخر النهار عندما أكون جوعاناً وتعباناً».
لا نخجل إذا استبدلنا الضاد بالدال كما نفعل إذا ظهر قصورنا في اللغة الأجنبية


مريم، جدّة لـ11 حفيداً، جميعهم يفضّلون اللغة الإنكليزية على العربية لأنها «أسهل»، كما يبرّرون. تنزعج كلما سمعتهم يتحاورون بـ«غير لغتنا»، وتنزعج أكثر عندما يطلبون منها ألواح الشوكولا أو المبيت عندها باللغة الإنكليزية التي «لا أفهمها، فأقول لهم: احكوا معي بالعربي». عندما انتقلت للسكن في القرية، تراجعت مهارات أحفادها اللغوية بالعربية كثيراً، «فقد كان منزلي المكان الوحيد الذي يستخدمون فيه العربية»، تأسف كيف يجيد أحفادها الثلاث، الذين يعيشون في أميركا منذ ولادتهم، اللغة العربية أكثر من أحفادها الأحد عشر المقيمين في لبنان.

نتيجة عكسية
ليست المشكلة في الانفتاح على ثقافات بلدان أخرى وإتقان لغاتها، بل على العكس، ذلك ضروري في سبيل التطور «لكننا، نبالغ في انفتاحنا إلى حدّ نبدو فيه ملكيّين أكثر من الملك. نريد أن يتحدّث أولادنا الفرنسية بشكل أفضل مما يفعل الفرنسيون أنفسهم»، تقول رعد. وتلفت نظر الأهالي الذين يسعون إلى تلقين أولادهم لغة ثانية إلى جانب لغتهم الأهم منذ أعمار مبكرة، فيمررون مفردات أجنبية في جملة عربية أو العكس إلى أن «استخدام أكثر من لغة واحدة مع الطفل في السنوات الثلاث الأولى من التربية باعتبارها فترة اكتساب اللغة، خطأ فادح، يؤثر على نموهم الفكري ويؤخّر نطقهم وبالتالي يؤخر اكتسابهم للّغتين». عوض ذلك، «يجب تعريض الطفل إلى لغته الأم فقط في عمر اكتساب اللغة. وعند سن الرابعة يبدأ تعليمهم لغة إضافية ثانية، فثالثة». وهنا تجدر الإشارة إلى تحدّ في أصل تعلم اللغة العربية، «يرتبط بالفرق بين العربية العامة التي يتعلّمها الطفل من محيطه، وتلك الفصحى التي يتعلمها في المدرسة».