بعد عقود على برنامج «الغذاء مقابل السلام» الأميركي، والذي انقسم فيه التوافق العالمي للحلفاء الدوليين بسبب المعركة بين التحالفات الاقتصادية بقيادة الشرق من جهة والتبعية الاقتصادية بقيادة الغرب في الجهة المقابلة، تواصل الولايات المتحدة، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، ذراع القوة الناعمة، ابتكار طرق لتثبيت موطئ قدمها الاقتصادي في المنطقة. في عام 2020، أُطلق مشروع تسهيل التبادل التجاري والاستثمار (TIF) المموّل من الوكالة الأميركية في سياق تصاعد التوتر والنزاع السياسي، حيث أصبح لبنان ساحة حرب اقتصادية. أُطلق المشروع الذي تبلغ كلفته 70 مليون دولار في 30 حزيران مطلع السنة المالية 2020، وأنفق 19 مليوناً منها حتى يومنا هذا.تماماً كما يساعد برنامج «الغذاء مقابل السلام» في تطويق الجنوب العالمي، ولبنان على وجه الخصوص، بالتبعية الاقتصادية الغربية، يساعد مشروع تسهيل التبادل التجاري والاستثمار (TIF) في دفع لبنان إلى مزيد من التمويل الأصغر داعماً ثماني مؤسسات لبنانية للتمويل الأصغر على أمل أن تكون نموذجاً يجتذب المنظمات اليائسة اقتصادياً، محوّلاً إياها إلى نوع من الفقر المستدام الذي يمكّن منظومة التراكم النيوليبرالي بشكل أكبر، التي بدورها في المقابل، تضع نموذجاً معاد التدوير من الديون المموّلة أمام الصناعات اللبنانية.
يشرف على هذه العملية في لبنان مارك روستال، صاحب الخبرة والخلفية في تسهيل الاستثمار الأميركي، أو الابتزاز، في القطاع المالي والبنية التحتية والقطاع الخاص، وذلك منذ تشرين الأول 2020. وقد أنيطت به مهمة تسهيل زيادة «بدائل الصادرات والواردات» في إطار مشروع TIF ، ولكن من الواضح أن للسيد روستال خبرة كبيرة في خلق تحولات سريعة للخصخصة المعولمة. 

إعداد: رند وهبة | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

بدأ روستال حياته المهنية في بنك TCF التجاري في الولايات المتحدة، حيث كان يدير الأوراق النقدية العليا للشركات الخاصة. ثم انضم إلى «فيلق السلام» في عام 1992، حيث عمل مستشاراً تجارياً لمكتب رئيس بلدية في أولان باتور، منغوليا، منجزاً العديد من عمليات الخصخصة للأصول المملوكة للدولة بالإضافة إلى جهود «الإصلاح» مع مكتب الخصخصة المحلي.
في أواخر التسعينيات، نقل روستال عمله إلى جبهة أوروبا الشرقية، حيث كان له دور فعّال في إدخال المصارف والمؤسسات المصرفية في الاتحاد السوفياتي السابق، وبعد أن وضعت إدارة أوباما نصب عينيها خصخصة أفريقيا، نشط في كينيا لإعادة هيكلة البنوك لاستيعاب التمويل الأصغر (Microfinance) - والضغط لتقديم مشروع قانون التمويل الأصغر.
في لبنان، يعمل روستال تحت إشراف شركة «DAI»، مقاول التنمية الموكل تنفيذ المشاريع التجارية والاستثمارية للوكالة الأميركية للتنمية الدولية. «DAI»، الحاضرة في كل مكان في عالم التنمية، تتولّى تنفيذ عقود لوزارة الخارجية الأميركية، وبنك التنمية الأوروبي، والاتحاد الأوروبي، وFDCO في المملكة المتحدة، وكذلك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، حيث فازت بأول عقد لها عام 1973 في أميركا اللاتينية، أي في عام انقلاب تشيلي المدعوم أميركياً والذي أدخل النيوليبرالية إلى القارة.
فيما يدّعي مشروع TIF أنه يشمل تعزيز كفاءة التصدير في لبنان كأحد أهدافه، من الواضح أن هذه الأساليب هي مجرد تكرار لعمل روستال في أوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا. يمهّد TIF الطريق أمام الشركات الغربية ومؤسسات التكنولوجيا للاستفادة من لبنان كأرض للاستثمار. ويهدف صندوق TIF إلى توفير أكثر من 270 مليون دولار ديوناً لاستثمارات القطاع الخاص.
يهدف TIF إلى تحويل «شركائه» المحليين إلى شبكة يمكن أن تعمل كهيكل دائم لتعبئة موارد القطاع الخاص


يهدف TIF إلى تحويل «شركائه» المحليين إلى شبكة يمكن أن تعمل كهيكل دائم لتعبئة موارد القطاع الخاص وفرض دائم لفوائد الديون على اللبنانيين في حين تمنع الولايات المتحدة الاستثمار والتعاون في البنية التحتية في لبنان مع الصين وروسيا وإيران. ينظم برنامج TIF في لبنان نفسه حول أربعة قطاعات ذات أولوية - معالجة الأغذية الزراعية، والتصنيع، واقتصاد المعرفة، والسياحة والضيافة. وتم توجيه تمويل TIF نحو قطاعي السوبرماركت والتجزئة، حيث قام بتمويل Toters بمبلغ 18 مليون دولار وشركة Gray Mackenzie Retail التي تُعد جزءاً من نحو 100 شركة في لبنان تعتمد معايير البيئة والمجتمع والحوكمة (ESG) التي تريدها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية كنموذج للشركات.



بورتريه

ياسر عكاوي: ناطور نادي «التنمية»
تُعتبر معايير ESG التي ترمز إلى البيئة والمجتمع والحوكمة، محط صراع سياسي واقتصادي في الغرب، حيث يصطف الديمقراطيون ومؤيدو العولمة ودافوس وشركات على رأسها بلاكروك بقيادة رئيسها لاري فينك، في مواجهة المعادين للعولمة وفي مقدمتهم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وستيف بانون لقيادة الجماهير البيضاء المتأذية من العولمة وإلى جانبهم مؤسسات اقتصادية ليبراترانية كبرى من أمثال رينايسانس وحتى ايلون ماسك، والصراع لا يدور حول القيم التي يفترض بهذه المعايير حمايتها، إذ يعرف الجميع أنها مجرد مفاتيح يتذرع بها الفريق الأول لمنع الفريق الثاني من دخول نادي الأثرياء الحصري في المستقبل.


وفي ما يخصّنا نحن، تسمح هذه المعايير للوكالة الأميركية بمراقبة وفحص ومعاقبة وإعطاء معاييرها وإرشاداتها وتشكيل الأعمال التجارية في البلاد، ما يمد شريان حياة مالياً لأولئك الذين ينفقون الأموال في الإملاءات المالية والجانب المستفيد من رأس المال والسياسة الأميركية على حد سواء. معايير "ESG" تعزز التبعية الاقتصادية والفكرية والمعرفية للعالم الغربي (بل لفريق محدد داخله) وهي تؤدب هذه الشركات للالتزام بالمخططات الإرشادية المرسومة أجنبياً.
«مستشار ESG» لبرنامج TIF هو ياسر عكاوي، ويتم تنفيذ مشروع تصنيف الشركات وفقاً لمعايير ESG من شركة Capital Concept التي يملكها عكاوي، وهي شركة استشارية لإدارة الأعمال تهدف إلى تشكيل استراتيجيات الأعمال التجارية الموجّهة نحو السوق الغربية والمساعدة في نموها في الشركات اللبنانية والتي صيغت مقاربتها لمشروع TIF من قبل مؤسسة التمويل الدولية، والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار، ووكالات الأمم المتحدة في لبنان. كما أن عكاوي هو المدير التنفيذي لمجلة «Executive» التي وفّرت منصة ترويج لبرنامج TIF وشركاء USAID.