وصل ماساو أداتشي وكوجي واكاماتسو إلى لبنان عام 1971، بعد زيارة لمهرجان كان السينمائي، وقاما بتصوير فيلم «الجيش الأحمر/الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: إعلان الحرب العالميّة». يعرض الفيلم الأنشطة اليومية للمناضلين الفلسطينيين كسرد سينمائي ترويجي للكفاح المسلّح ضد العدو الإسرائيلي. وفي عام 1974، أراد أداتشي صنع فيلم ثانٍ عن فلسطين، قرّر وقتها تطوير السينما الثورية وغادر اليابان للانضمام إلى مجموعة مقاومين في الجيش الأحمر المناصر لحقوق الشعب الفلسطيني، وبقي 26 عاماً في خدمة القضية الفلسطينية. عام 1997 سُجن في بيروت في الزنزانة نفسها مع كوزو أوكاموتو، وتم ترحيله إلى بلاده بعد ثلاث سنوات، حيث بقي في السجن لمدة عامين آخرين. بمجرد إطلاق سراحه، عاد أداتشي إلى السينما المستقلة الراديكالية، وكان أول فيلم طويل له منذ أكثر من ثلاثين سنة هو «سجين إرهابي» (2007) عن زميله كوزو
من خلال «سجين إرهابي» عاد ماساو أداتشي بفيلم ورسالة من الزمن الذي كانت خلاله الأفلام صريحة وطليعية وسياسية للغاية. قدّم فيلماً عن الاستطراد النفسي، مقتبساً من نص من تأليف الشيوعي الخيالي الفرنسي لوي أوغوست بلانكي، ومن تجارب أداتشي الشخصية، ومن حياة كوزو أوكاموتو أحد منفّذي عملية مطار اللد عام 1972، والذي تشارك الزنزانة مع أداتشي في لبنان عام 1997 حتى عام 2000.
يبدأ الفيلم بالوداع. ثلاثة مقاتلين من الجيش الأحمر يودّعون أصدقاءهم المقاتلين الفلسطينيين ويتوجهون إلى مطار. نجحت العملية مع خطأ بسيط: لم تنفجر القنبلة اليدوية التي كان ينوي «م» (تومورو تاغوشي) تفجير نفسه بها بعد العملية، وتم اعتقاله. ينقلنا أداتشي بعد ذلك إلى السجن مباشرة، حيث تبدأ الرحلة. «م» في السجن يتعرض لكل أنواع التعذيب والإذلال. مع الوقت بدأ يفقد عقله ويتساءل عن أفكاره الثورية. أداتشي يقلب عقل السجين رأساً على عقب، حيث تتجلى أفكاره ومخاوفه أمامنا. «سجين إرهابي» أكثر من قصة إثارة نفسية في السجن، هو فيلم وُلد من الأفكار الثورية، ملتزم إلى أقصى الحدود بقناعته السياسية.

ملصق فيلم «الجيش الأحمر/الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: إعلان الحرب العالميّة»

رغم أن الفيلم يدور حول أوكاموتو بوضوح، إلا أن البطل لا يُشار إليه مطلقاً بأي اسم باستثناء حرف «م». حتى خلال التحقيق عندما يُسأل عن اسمه، يردد دائماً بأنفاسه المقطوعة، «بلا اسم». منذ بداية الفيلم يصر «م» على أن الخطيئة الوحيدة التي ارتكبها هي أنه لم يستطع تفجير نفسه، تعذّبه هذه الحقيقة طوال الفيلم. يزور أداتشي في الفيلم بروح تأمّلية ماضيه الثوري، ويؤكد أن أي شيء خارج القضبان سجن. والحرية سجن من نوع آخر.
أوضح الفيلم العديد من المخاوف التي تثيرها السجون، من بينها فقدان الاستقلالية، الشعور بالملل والفوضى، العنف، التعذيب الذي لا يوصف، والضعف المستمر للصحة العقلية. تتخلل العنف والتعذيب والقهر لحظات وجيزة من التفكير في مفهوم الحرية، من خلال أوجه التشابه بين العمليات العسكرية وإرهاب الدولة. ويركز على ما يحدث في العالم الداخلي، عالم الإيمان الفردي والثقة، والزمن تحت التعذيب. يصوّر الفيلم كيف يمكن لشخص إن لم تكن لديه الثقة أو الإيمان بأنشطته، أن يبدأ في إنكار كل العقيدة ثم خلق تبريره الخاص لكل من مُثله الثورية. ومحاولة البحث عن معنى الحرية الفردية، وكيف نتحرر من الاضطهاد الداخلي، كيف نفكّكه. «سجين إرهابي» يهدف إلى سرد قصة الجيش الأحمر ونضالاته، كلمة بكلمة وبجرعة من الاحتفاء بالنفس.
العزلة والوحشية لا هوادة فيهما في الفيلم، لدرجة أن كل ما سيبقى هو الألم. «سجين إرهابي» هو اكتشاف شجاع لتعرج الروح البشرية إلى حالة ثورة دائمة. مقيّد بسلاسل في الظلام في صندوق معدني صغير وأرضية مليئة بالقيء، مجبر على أكل ما لا يؤكل، يتم اختبار التزام «م» بقضية الكفاح المسلّح من خلال المحَن الجسدية. «سجين إرهابي» دعوة لتحمّل المسؤولية وإعادة التواصل مع الماضي الثوري، وأخيراً ما يمكن أن يعنيه أن يكون المرء على قيد الحياة بعدما اختار تفجير نفسه من أجل القضية الثورية والكفاح المسلّح الفلسطيني.

السينما الثورية اليابانية
كانت اليابان في الستينيات مكاناً يتميّز بحركات الاحتجاج، نمت المعارضات ضد سياسات ما بعد الحرب بشكل كبير، وولد يسار جديد مكوّن من مجموعات مختلفة مناهضة للمؤسسات الحاكمة. كان تجديد معاهدة التعاون والأمن المتبادل بين الولايات المتحدة واليابان (Anpo)، يُظر إليه على أنه خطوة جديدة للاستعمار الأميركي الجديد في اليابان، فضلاً عن دخول الأخيرة في العقلية الإمبريالية للولايات المتحدة، وتحوّلها النهائي إلى قاعدة عسكرية خلال حرب فيتنام. حفّز هذا الحدث صراعاً اجتماعياً، فبدأت سلسلة الاعتصامات والتظاهرات المعروفة باسم "Anpo Protest"، وأدّت إلى اشتباكات مع الشرطة والجماعات اليمينية المتطرفة، وظهرت جماعات ثورية يسارية جديدة. بالتوازي مع الشارع، كانت الثورة الثقافية حاضرة من خلال الحركات الفنية المتجذرة بعمق في المناخ الاجتماعي التي تستكشف وتحارب من أجل التحرر من القوالب. وفي عالم السينما، كان هذا يعني التشكيك في النظام الصارم الذي وضعته الاستوديوهات الكبرى.
مسلحاً بكاميرا أو بمسدس لم يكن هناك فرق بالنسبة إليه فكلا السلاحين أداة لمكافحة القمع


ظهرت البدائل ومعها جيل جديد من صانعي الأفلام الذين لم ينجحوا فقط في الأفلام الوثائقية ذات الوعي الاجتماعي، ولكن أيضاً في مجال السينما الثورية. ولّد الجمع بين التوتر الاجتماعي العنيف وحرية التجربة شكلاً ديناميكياً جديداً للسينما. من بين صانعي الأفلام الذين استلهموا روح المقاومة في ذلك الوقت، كان ماساو أداتشي من الأكثر تطرفاً وإصراراً. «كانت الثورة موضوعي باستمرار، يقول الناس: السينما الثورية. أقول: لا، إنها سينما للثورة»، يقول أداتشي. مسلحاً بكاميرا أو بمسدس، لم يكن هناك فرق بالنسبة إليه، كان كلا السلاحين أداة لمكافحة القمع السياسي والاجتماعي. صنع أفلامه الأولى تحت رعاية الحركات الطالبيّة اليابانية، ومن خلال أفلامه ذات الصبغة السوريالية والمثيرة للجدل سياسياً، أصبح جزءاً مما يُسمّى بتيارات «الموجة السينمائية الجديدة» أو «السينما الثورية التخريبية» التي هزّت الثقافة اليابانية في ذلك الوقت.

فيديو ترويجي للفيلم: