سيمرّ المشهد عرضياً، ككل ما سبقه وسيلحق به. بضع تغريدات انفعالية ومقدمات تلفزيونية خنفشارية، ثم حدث آخر وانفعالات أخرى، إلى ما لا نهاية. في ظل سرعة هائلة، لا تتيح لأيّ حدث أن يأخذ نفَساً أو يحجز مساحته المستحقة.مع ذلك، لا بدَّ من التوقف قليلاً عند سيول جونية وضواحيها، لأنها جونية بالتحديد.
ليس «جونية اللؤلؤة» أو غيره من الشعارات التي لم تقدم شيئاً للمدينة سوى مخالفات البناء على طول واجهتها البحرية وفي أحراجها التي كان يفترض أن تكون محمية، قبل أن يربط مشروع رفيق الحريري اسمها بالمعاملتين حصراً. ولا جونية التي تضعها بعض العقول الرجعية في مرتبة أهم من غيرها وفق خلفية مذهبية لا ثقافية أو إنتاجية...

(من الويب)

وإنما جونية النائب الثوري نعمة افرام و«إنسانه أولاً»، والذي يقدم نفسه مرشحاً إلى ما بعد بعد الرئاسة. وجونية البطريركية المارونية التي تكدّس الأموال فوق الأرزاق فوق عائدات الوقف والمؤسسات، من دون أن تقدم لهذا البلد الذي تحمل نير مجده المفترض أكثر من الخطابات ومطالبة الآخرين بفعل شيء ما. جونية فريد هيكل الخازن الذي كاد «يزفّت» سطوح المنازل حين كانت وزارة الأشغال في يد تيار المردة. جونية جوان حبيش الذي ينشغل بتنظيم مهرجان صيفي طويل لرفع اسم مدينته من دون أن يهتم بالضغط والمتابعة لتنفيذ ما يفترض تنفيذه من أجل حمايتها من الغرق. جونية التي خصّها العماد ميشال عون وحدها بزيارة مهرجانية، عشية الانتخابات البلدية السابقة، ليقول إن له فيها ما لا يمكن أبداً خسارته. جونية التي تصرّ القوات اللبنانية على إيجاد موطئ قدم لها فيها عبر المساعدات المالية والغذائية والتربوية والاستشفائية الصغيرة بدل المشاريع الكبيرة التي تفيد كل الناس. في جونية هؤلاء، يغرق الناس في سياراتهم وتغمر المياه منازلهم من دون أن يرفّ لفعالياتها الروحية والسياسية رمش.
من يسألون دائماً عما يحصل نتيجة الفقر في طرابلس التي «خرّجت» مليارديرية، يتقدّمهم الرئيس نجيب ميقاتي، عليهم أن يسألوا أيضاً كيف يمكن أن يحصل ما حصل وسيحصل في جونية رغم حرص ابنها نعمة افرام على «الإنسان»، ورغم نفوذ ابنها الآخر فريد الخازن في «الأشغال»، ورغم قدرات بلديتها، ورغم إغداقها الأصوات على العونيين والقوات. من دون أن ننسى أن السبب في ما حصل وسيحصل مجدداً، ويبرّر لهؤلاء كل هذا التجاهل، هو الناخب نفسه الذي يفضل الخدمات المباشرة الصغيرة على المشاريع الإنمائية الكبيرة، ويؤيد من يمنحه بطاقة استشفائية أو علبة دواء من دون أن يبالي بما يفترض أن يجنّبه المرض.
لأنها جونية لا بدّ من التوقف عند ما حصل، واستعادة التنافس الذي شهده العقدان الماضيان بين افرام وحبيش على هدر عشرات آلاف الدولارات في احتفاليات المفرقعات لـ«رفع اسم المدينة عالياً»، بدل التنافس على ترميم البنية التحتية للمدينة أو تطويرها أو وضع تصور اقتصادي يحدد وظيفتها بعدما فقدت منذ سنوات بعيدة هويتها الاقتصادية.
جونية نموذج عن شعب يتفاخر بالتبولة والفتوش من دون أن يهتم بالصرف الصحي الذي تسقى به البندورة والبقدونس


والكارثة الأكبر أنه لا أحد من المعنيين عندما يُسأل عما حصل، يجيب بأنه «نورمال». عادي أن يغرق الناس في سياراتهم ويعيشوا هذا الخوف كله. طبيعي جداً أن يحصل ما يحصل طالما أن البناء العشوائي لم يترك ممرات للأمطار غير الأوتوستراد، فباتت تسلكه من حريصا إلى البحر، مروراً بالمنازل والمطاعم والمتاجر والسيارات والمشاة. من المسؤول عن توزيع رخص البناء؟ وعن التنظيم المدني؟ وعن محاسبة وزراء الأشغال؟ وعن كل هذا الانعدام في التخطيط أو المتابعة أو المحاسبة أو المعالجة طالما أن ما يحصل يتكرر دوريّاً.
جونية نموذج عن إعادة الإعمار الرسمي والخاص الذي لا يهتم سوى بتشييد الأبنية الجميلة من الخارج دون اهتمام بمجاري المياه التي ستهطل فوقها أو بصرفها الصحي أو مواقف السيارات أو إمدادات المياه أو علاقة البر بالبحر! هي نموذج عن شعب يتفاخر بالتبولة والفتوش من دون أدنى اهتمام بالصرف الصحي الذي تسقى به البندورة والبقدونس.
جونية نتيجة «نورمال» جداً لذهنية شعب وأحزاب ونواب وبيوتات ووزارات.