حتى لو نجحت وزارة الأشغال في فتح مجاري المياه، يمكن للفيضانات أن تحصل في لبنان بسبب الظواهر المناخية المتطرّفة. هذا التطرّف المناخي بدأ بالظهور فعلاً في السنوات الأخيرة، وهو مرجّح للتفاقم في السنوات المقبلة مع الزيادة المتوقّعة في ارتفاع درجات حرارة الأرض والزيادة في غزارة تساقط الأمطار، كأن تمطر في عشر دقائق ما كانت تمطره خلال أسبوع، بطريقة غزيرة أكبر من قدرة مجاري مياه الأمطار على الاستيعاب، والتسبّب بفيضانات كبيرة.وحتى لو نجحت وزارة البيئة في استباق حرائق الغابات والأحراج، بحملات الوقاية والتنبيه، كما حصل مع وزير البيئة هذا العام الذي نجح بنشاطه الزائد في خفض عدد الحرائق، مقارنة مع السنوات الماضية، إلا أنّ احتمالات الحرائق وحجمها وعددها يمكن أن تزيد بسبب ارتفاع درجات الأرض أيضاً.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى سرعة ذوبان الثلوج، التي تتسبّب بخفض تغذية المياه الجوفية، وفي شحّ المياه صيفاً، بالإضافة إلى التأثيرات السلبية على السياحة الشتوية ورياضة التزلج، وعلى بعض الزراعات. ويمكنها أن تؤدي إلى زيادة في انتشار الأمراض وفي شراسة بعض الفيروسات وبالتالي زيادة الوفيات… مع آثارها الخطرة جداً على حياة بعض الأنواع النباتية والحيوانية وتهديد التنوّع البيولوجي عامة.
لقد أصبح موضوع تغيّر المناخ واقعاً لا شك فيه، ويجب أن ينتقل الخطاب العلمي والعالمي والسياسي والإعلامي، من الحديث عن «تغيّر المناخ» إلى الحديث عن «الكوارث المناخية» التي يفترض أن تسجّل أرقاماً قياسية كل سنة بشكل تصاعدي، تماماً كما تتزايد الانبعاثات بدل أن تنخفض بسبب عدم وفاء الدول بالتزاماتها كما ظهر بشكل معلن في قمة مناخ شرم الشيخ. كما لم يعد هناك من شك في لبنان، كما على مستوى العالم، بأن الكلفة الاقتصادية للكوارث المناخية ستطيح بكلّ مكتسبات التنمية التي عرفها لبنان والعالم.
أمام هذه المعطيات وهذا الواقع، كيف يتصرف لبنان الرسمي والأهلي حول هذا الموضوع؟
في هذه الجولة الـ27 من المفاوضات الدولية التي حصلت في شرم الشيخ أخيراً، راوحت المشاركة الرسمية ضمن حدود تقديم وزارة البيئة اللبنانية كلّ تقاريرها المطلوبة ومساهماتها المحددة وطنياً، بحسب اتفاقية باريس التي وافق عليها لبنان. وكانت في السنوات الماضية قد قامت بالدراسات اللازمة لمعرفة مصادر الانبعاثات وقضايا التكيّف، وأعدّت بعض الاقتراحات التي تحدّد فيها ما هو المطلوب من كلّ الوزارات والقطاعات للتخفيف من الانبعاثات والتكيف مع هذه الظاهرة المستجدة، وسعت إلى إيجاد تمويل لكل ذلك. وقد بقي على وزارة البيئة الآن العمل على اقتراح استراتيجية شاملة تشكل مدخلاً لاستراتيجية بيئية مستدامة تحمي الموارد والبيئة وتعيد بناء اقتصاد حقيقي يحترم قوانين الطبيعة عامة والأنظمة الإيكولوجية خاصة… واقتراح تبنّيها في مجلس الوزراء عندما ينتظم عمل المؤسسات.
أما لناحية ما يسمى المجتمع المدني، فقد وصلت مشاركة المجتمع الأهلي في هذه الجولة من المفاوضات الدولية في شرم إلى ذروة غير مسبوقة! بغضّ النظر عن مدى فعالية هذه المشاركة شبه الفولكلورية لما يسمى المجتمع المدني، التي لم يُحضّر لها جيداً (معرفياً) قبل انعقادها، بقدر الاهتمام بالتسجيل وإيجاد تمويل (كبير) للمشاركة، والتي لا يمكن قياس جدواها إلا من باب الاستطلاع والاستعلام! وهذا ما يطرح علامات استفهام كبيرة حول التوظيفات المستقبلية لهذه المشاركة، الواعية وغير الواعية؟!
اعتادت المراجع التفاوضية الرسمية، الممثلة للقوى الاقتصادية المسيطرة في الأسواق العالمية والمسيطرة على الدول والعالم، أن تموّل ما يسمى ممثلين عن المجتمع المدني الطيّع، لا سيما الشباب المتحمّس وغير المتخصّص والمتعمّق في حقيقة قضية تغيّر المناخ والصراعات حولها، إلى درجة تراجع دور القوى الاجتماعية المطالبة بتغيير الأنظمة التي غيّرت المناخ، وإدخال المجتمع المدني السطحي إلى باحات الاجتماعات الرسمية للتعبير عن وجود شكلي لمعترضين وضاغطين على الدول لتقديم المزيد من التنازلات الشكلية في المفاوضات. وكانت بعض قوى الضغط الغربية تطالب ما يسمى المنظمات العربية المهتمة بالمناخ، بالضغط بدورها على بعض الدول النفطية الغنية لأن تساهم في تحمّل المسؤولية وفي تمويل صناديق المناخ وتحميلها مسؤولية عرقلة المفاوضات لناحية عدم تجاوز زيادة حرارة الأرض بدرجة ونصف! في حين أن مشكلة الدول النامية عادة، وبينها الدول النفطية التي لا تزال تعتبر نفسها نامية، هي أنّها تقلّد الدول المصنّفة متقدّمة في نموذجها الحضاري، وتطالبها بتحمّل مسؤوليتها التاريخية بتغيّر المناخ في الوقت نفسه! وهذا النهج التاريخي التفاوضي هو ما جعل الاتفاقيات غير ذات جدوى، والمناخ إلى المزيد من التدهور.
بغض النظر عن المشاركة الفولكلورية الأهلية اللبنانية، كان لافتاً كلام ممثل بعض المنظمات (الشبكات) العربية في أحد اجتماعات مجموعة التفاوض العربية التي «ناضلت» من أجل حضور جلسة واحدة فيها، حين خاطب المجتمعين بالقول «اعتبرونا الموسيقى التصويرية لأعمالكم، وقولوا لنا ما هو الموقف حتى نعمّمه على المجتمع»! مضيّعاً نضالات كبيرة للكثير من المناضلين التاريخيين الذين كانوا يعتبرون أن قوى المجتمع المدني يفترض أن تشكل قوة ثالثة بين الحكومات والقطاع الخاص لحماية المجتمعات من جنوح السلطات وفسادها، ومن استثمارات القطاع الخاص المدمرة للبيئة والمناخ.
فما الذي يمكن تحضيره عربياً، رسمياً وأهلياً، للكوب 28 الذي سيعقد في الإمارات العام القادم، من مساهمات أكثر نضجاً؟
أخيراً، يتفرّد لبنان بين أشقائه العرب، بحالة الانهيار الشاملة التي ضربته على كلّ المستويات، ولم يعد له من مخارج للخروج من هذه الحالة إلا من بابين لا ثالث لهما: إما الاستدانة من الصناديق الدولية، أو الرهان على التنقيب عن النفط والغاز. وبما أن هذه الرهانات- الخيارات هي في صلب مشكلة المناخ العالمية واللبنانية التي تقول في خلاصتها، إنّه إذا أراد العالم أن يمنع زيادة حرارة الأرض بما يفوق درجة ونصف درجة، كما نصت اتفاقية باريس، عليه أن يترك ما بقي من غاز ونفط ووقود أحفوري تحت الأرض، أو على الأقل، وقف دعم الاستثمار في هذا الاتجاه. من هنا يفترض أن يتركز النقاش الآن عن البدائل والتعويضات الممكنة من البلدان المسؤولة تاريخياً عن المشكلة، إذا قرّر لبنان أن يسير بهذا الخيار. وللحديث عن هذا الموضوع صلة.