تعود قضايا العنف الأسري إلى ما كانت عليه قبل عام 2014، إلى الظلام. اعتكاف القضاة، واكتظاظ السجون، واستنزاف طاقة القوى الأمنية التي قرّرت عدم التدخل إلا عند وقوع «جرائم ثقيلة»، كلّها عوامل جمّدت تطبيق قانون «حماية المرأة وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري». فاستعاد المعنّف جرأته في غياب الرادع. وعادت الضحية إلى صمتها في غياب السند القانوني. حتى صارت جرائم قتل النساء أخباراً جاهزة تتغيّر فيها أسماء الضحايا فقط. تتفاقم حوادث العنف الأسري من حيث العدد والحدّة منذ اعتكاف القضاة في آب الماضي، بحسب منظمة «كفى عنف واستغلال»، التي أحصت 103 حالات عنف أسري طارئة لسيدات لجأن إليها منذ ذلك الوقت حتى أواخر تشرين الثاني، بالإضافة إلى 32 إخباراً تابعتها خلال هذه المدة. اعتكاف القضاة منع حماية عدد من هؤلاء السيدات اللواتي «لم يستطعن التقدم بشكوى جزائية ولا الحصول على قرار حماية، وبعضهنّ خسرن أطفالهن الرضّع». وبما أنّ اعتكاف القضاة نسبيّ، ويخضع لمعايير سياسيّة، صارت رقاب النّساء المعنّفات معلّقات بالهوية السياسية للمدّعي العام الذي سينظر في قضيتها، والتي تحدّد موقفه من إضراب القضاة. وهي وحظها... الذي قد يكون جيّداً ويصل ملفها إلى يدي مدّع عام غير معتكف، أو معكتف لكنه يستجيب لحالتها من منطلق إنسانيّ.
لجأت بعض السيدات إلى القوى الأمنية ليشكون تعرّضهن للتعنيف والضرب المبرح فلم يلقين نتيجة قبل «الاستغاثة» بـ«كفى». تشير المحامية في «كفى» فاطمة الحاج إلى «عدم استجابة الأطراف المعنية لتطبيق قانون العنف الأسري» الرقم 293، وتؤكد في مقابلة مع «الأخبار» أن «القوى الأمنية استنسابية في تعاملها مع شكاوى العنف الأسري، تغربلها بحسب مدى خطورة الجرم ولا تنشغل إلا بالجرائم الثقيلة».
وعلماً أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة التي يمرّ بها اللبنانيون، إلى جانب التفلّت الأمني يستوجبان حماية أكبر للنساء، الحلقة الأضعف في المجتمع. إلا أن ما يحصل اليوم هو توقيف المعنّف بضع ساعات في المخفر «فركة إذن»، وتوقيعه على تعهد بمنع تكرار سلوكه قبل إخلاء سبيله. فالسجون لم تعد تتّسع للمزيد من الموقوفين والدولة لم تعد قادرة على إطعامهم.

نتائج كارثية
هذه الحال تهدّد حياة النساء في لبنان، وتنسف جهوداً كبيرة قامت بها سيّدات وجمعيّات نسويّة لإقرار قانون «العنف الأسري» وإخراج قضاياه من الحيّز الخاص إلى العام، وصولاً إلى تراكم وعي مجتمعي لمناهضة العنف ضد النساء القائم على النوع الاجتماعي، أي الذي يمارَس من الرجل على المرأة لأنها ببساطة امرأة تتبع لمنظومة ذكورية أبوية تكرّس التوزيع الصارم للأدوار الاجتماعية بين النساء والرجال بما يعلي سلطة الثاني على الأولى.
رقاب النساء المعنّفات معلّقات بهوية المدعي العام السياسية


صحيح أن قانون «العنف الأسري» لم يغيّر شيئاً في هذه المنظومة، وبقينا نسمع عن جرائم قتل النساء بعد إقراره، لكنه استطاع أن يخفّف معاناة كثيرات ويؤمّن الحماية لبعضهن. وكان تطبيقه «رائعاً»، كما تصفه الحاج، «إذ ظهرت إرادة الجهاز الأمني والقضائي لإعطاء مفاعيل قويّة لذلك. وجرى تجهيز غرف خاصة لاستقبال ضحايا العنف في المخافر وتدريب العناصر على الاستماع إليهن، بالإضافة إلى تأمين مأوى لاستقبالهن مع أولادهن، وتوفير مهنيين نفسانيين واجتماعيين وحقوقيين وصحيين لدعمهن».

القانون عقابي وحمائي
القانون، بشقّه العقابي، شكّل رادعاً للرجال المعنّفين لأنه شدّد عقوبة الضرب والإيذاء المنصوص عليها بموجب قانون العقوبات اللبناني إذا كان مرتكبها أحد أفراد الأسرة، حتى صارت تصل إلى ثلاث سنوات سجناً. وسمح بمجرد فتح محضر وبإشارة من النائب العام التمييزي بإخراج المعنّف من المنزل إن لم يكن للضحية مأوى آخر، وإجبار الزوج على دفع كلفة علاجها. أما شقّه الحمائي، فجاء استجابة لرغبة بعض السيدات بعدم زجّ الزوج في السجن. كذلك أتاح لها طلب حماية أمام قاضي أمور مستعجلة مدني غير جزائي، يمنع المعنّف من التعرّض للضحية تحت طائلة العقوبة بالسجن، ويتيح لها طلب إخراج الزوج وبقائها في المنزل، واستعادة أوراقها الثبوتية إذا خرجت من دونها، أما إذا كان هناك حساب مصرفي مشترك بين الزوجين فيمكن طلب تجميد السحب منه.

من يشمل؟
رغم أننا ركّزنا في حديثنا على العنف الممارَس من الزوج ضد الزوجة باعتباره الأكثر انتشاراً، إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن القانون يشمل العنف الممارَس ضد أيّ من أفراد الأسرة الممتدّة إلى الدرجة الثانية، أي يشمل الصهر والعم والخال... وهكذا تستفيد من مفاعيله الفتيات الراشدات (فوق 18 عاماً) اللواتي قد يتعرّضن للعنف من قبل الأخ أو الأب أو زوج الأم، بالإضافة إلى استفادة كبار السن منه أيضاً. أما الأطفال فيستفيدون من مفاعيل قانون حماية الأحداث الرقم 422 الذي صدر عام 2002. ويتيح قانون «العنف الأسري» أيضاً للزوج أن يشتكي على زوجته بتهمة تعنيفه، الأمر الذي ــ لا شك ــ يجعلك تبتسم أو تسخر في قرارة نفسك، و«هذا يحصل فعلاً في حالات نادرة لكن بطابع كيدي، كأن يردّ الزوج على طلب الزوجة الحماية بطلب حماية هو الآخر». أما عدا ذلك، فتخيّل مثلاً إذا تعرّض رجل للعنف من زوجته، هل سيقبل به المجتمع كضحية؟ هل سيعطيه الحق بالحماية القضائية؟ وهل ستستمع القوى الأمنية إلى إفادته من دون أن تسخر منه؟ وهل سيتجرأ هو على البوح بذلك أصلاً؟ الإجابة على كلّ ما سبق ستكون غالباً: «كلا». لنخرج من تخيلاتنا ونعترف أن العنف كان ولا يزال في لبنان وخارجه يمارَس ضد المرأة بشكل أساسي. المفارقة أن الجهات الأمنية والقضائية في لبنان لم تعد ترى الضرب المبرح والإيذاء وغيرهما، جرائم تستحق التدخل، تنتظر أن تموت الضحية بين يدي زوجها لتتحرّك، وقد لا تكون لقاتلي نسائهم زاوية في أروقة السجون في الأيام المقبلة.