هل نحن أمام حالة طوارئ تقود إلى أحكام عرفية؟في ظل استمرار الأزمة السياسية، وتعطل كل محاولات انتخاب رئيس جديد في وقت قريب، واستمرار العمل الحكومي وفق قاعدة «غب الطلب»، وتفاقم الأزمة الاقتصادية، كان من الطبيعي أن يدرك الناس، قبل الحكام، أن واحدة من النتائج الاجتماعية الخطيرة لهذه الفوضى في إدارة البلاد، هو ارتفاع معدلات الجريمة على اختلاف أنواعها. وإذا كان هناك من يسعى إلى ترتيب جديد لأولويات مكافحة الفساد، بأن يختار الأسهل والأصغر حجماً من عاملين في القطاع العام أو من مؤسسات خاصة، واستمرار التغطية على السارقين الكبار الذين نهبوا البلاد منذ عقود ولا يزالون، فإن الخطير في الأمر، محاولة فرض أمر واقع على صعيد إدارة مكافحة الجريمة في البلاد كما هي حال الأمر الواقع المفروض على الجميع في كيفية إدارة الوضع المالي والنقدي.
يبدو أنه مع تجربة الحاكم العرفي رياض سلامة التي تغري كثيرين في الدولة، وحال التفلت التي يعيشها القضاء اللبناني نتيجة الانحياز الفاضح لرئيس مجلس القضاء الأعلى من جهة، ووقف ملاحقة الفساد في الجسم القضائي، والنزيف الحاصل بسبب الأزمة المادية، فإن بدعة برزت في الفترة الأخيرة تمثلت في مذكرة أصدرها المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، يبيح فيها لعناصر قطعاته التصرف وفق قواعد لا تبقي الضابطة العدلية خاضعة بصورة تامة لإشراف القضاء المختص، وخصوصاً النيابات العامة.
مذكرة عثمان تعني، عملياً، أن قادة وضباط ورتباء وعناصر وحدات قوى الأمن الداخلي المنتشرة على الأرض، أو العاملة في إطار مكافحة المخالفات العامة، يمكنهم القيام بدورهم من دون رقابة قضائية مسبقة أو مواكبة لاحقة، لأن فكرة التصرف بحالات التوقيف والحجز وإطلاق السراح تصبح رهن ما يراه الضابط العامل على الأرض، بينما هي في الأصل وظيفة محصورة بالنائب العام قبل انتقال أي ملف إلى الجهات القضائية الأخرى حيث الادعاء والتحقيق والظن والإحالة إلى المحكمة.
في حالة لبنان، سيكون من حسن الفطن الظن بخلفيات هذه المذكرة، والأهم هو كيف أن قادة قوى الأمن الداخلي يقبلون بها وهم يعرفون أنها مخالفة لأبسط القواعد في العمل المهني. وبعدما صار مجلس قيادة قوى الأمن عاملاً بصورة مؤقتة نتيجة عدم وجود مؤسسة تصدر تعيينات، فإن وضع ضباط كبار في تصرف المدير العام، وتكليف المدير العام نفسه لضباط آخرين وفق ما يراه مناسباً القيام بمهام المواقع الشاغرة، فإن الأمور ستكون عرضة لفلتان مخيف سيطيح بكل ما تبقى من حريات عامة أو خاصة، وسيجعل مخافر لبنان - وهي عرضة للشبهة بسبب الفساد الكبير الموجود في قوى الأمن كما حال بقية إدارات الدولة - الحاكمة بأمرها في كل ما يجري على الأرض، من مخالفات السير إلى جرائم السرقة إلى مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال والفساد الإداري وخلافه. وهذه المخافر الموزعة في لبنان بحسب الولاءات الطائفية والمذهبية والسياسية سيفتح لها الباب لأن تعمل وفق أهواء لا يمكن نفيها بمجرد صدور مذكرة عن مدير عام. وكلنا يعرف أن مخافر الجنوب والجبل بشقيه الشمالي والجنوبي والبقاع وشمال لبنان، كما مخافر بيروت، تعمل تحت تأثير مباشر لمرجعيات سياسية وطائفية، وزاد في الأزمة، أن الانهيار المالي الكبير، أتاح لمجموعة من أصحاب الأموال شراء ذمم العديد من العناصر العاملة على الأرض مستغلين الوضع المادي الصعب الذي يعيشه أفراد القوى الأمنية والعسكرية، ومن ثم هناك أمر أكثر خطورة يرتبط بأن عدداً لا باس به من العناصر الأمنية باتت تستغل الإجازات الطويلة للقيام بأعمال إضافية تبين أن غالبيتها في شركات أمنية خاصة.
ما صدر عن مدير قوى الأمن الداخلي، والذي يستند إلى حجة اعتكاف القضاة، يفرض على من تبقى من مسؤولين، خصوصاً مؤسسة المجلس النيابي، المبادرة إلى خطوات تمنع أخذ لبنان إلى حالة الأحكام العرفية، والتي ربما ليس بين المسؤولين عندنا من لا يعرف أن مثل هذه الأحكام تقود إلى الحكم الذاتي قبل أن تقود إلى الانفجار الكبير الذي لا يتحمله لبنان.