مظاهر انحلال الدولة «تُزهر» يوماً بعد يوم. وآخرها «هرطقة قانونيّة» ابتدعها المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان بما يحوّل البلد دولة بوليسية. دخل عثمان من «خُرم» الاعتكاف القضائي، لاعتبار القضاء بُحكم المُغيّب، فأصدر مذكّرة داخليّة تعطي القطعات الأمنيّة السلطة الكاملة لتنفّذ مهام الضابطة العدليّة عند تعذّر الاتصال بالنيابات العامة أو تمنّعها عن إعطاء إشارة قضائية. بكلام أوضح، بات يحق لأي عسكري استخدام السلطة الممنوحة له بموجب هذه المذكرة لتوقيف من يعتبره مرتكب جريمة مشهودة، وأكثر من ذلك من دون تحديد مدّة التوقيف غير القانوني أصلاً. بالتالي، يُمكن للعسكري الإبقاء على أي شخص مُحتجزاً وليس موقوفاً حتّى، بذريعة أنّه ارتكب جريمة مشهودة في ظل تعذّر الاتصال بالنيابات العامّة.الخطير في الأمر أن عثمان حوّل القوانين المرعيّة الإجراء إلى «أوراق خرطوش». لم يكتفِ بعدم الالتزام بها، وإنّما حض ضباطه وعسكرييه على خرقها وارتكاب جريمة يُعاقب عليها القانون، ومن دون أي رادع، وهو في كل ذلك تمكّن من الاستحصال على غطاء من وزير الدّاخلية بسام مولوي، وهو - بالمناسبة - قاضٍ!
مصادر وزارة الداخلية أكّدت أنّ «مذكّرة عثمان صدرت بعلم مولوي وبموافقة النيابة العامّة التمييزية، وتتعلّق بتعليمات مُعطاة للضبّاط بأمور معيّنة باعتبار أنّ القوى الأمنية تقوم بمهام الضابطة الإدارية والعدليّة معاً».

مضمون المذكّرة
حاول عثمان أن يكون قراره «مبكّلاً»، إذ أشار إلى أنّه «يتولى الضابط العدلي في قوى الأمن الداخلي عند وقوع جريمة مشهودة من نوع الجناية أو الجنحة التي تستوجب عقوبة الحبس جميع الإجراءات التي يقوم بها النائب العام عندما يتعذر على الأخير مباشرتها بنفسه، ويبادر هذا الضابط إلى التقيّد بإجراءات التحقيق كافة وفقاً للمادة 41 من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة.
وفي حال تمنّع النيابة العامة الاستئنافيّة عن إعطاء الإشارة القضائية اللازمة أو الرد على الاتصال الهاتفي، ومن ثم تعذّر الاتصال بالنيابة العامّة التمييزية، يستبقي الضابط العدلي الشخص المشتبه فيه موقوفاً لديه إلى حين ورود إشارة من المرجع القضائي المختص بالترك أو عدمه، على أن يوثق هذه الإجراءات بموجب محضر عدلي وفقاً للأصول، ويضمّنه ساعة ونتيجة الاتصال بقضاة النيابات العامة بالتفصيل».
وافترض عثمان أنّه قام بواجباته القانونيّة على أكمل وجه بعدما أرسل إلى هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل كتاباً في أيلول الماضي (يحمل الرقم 163/204 ش4)، يسألها فيه عن الإجراءات الواجب اتخاذها من قبل قطعات قوى الأمن الداخلي التي تقوم بمهام الضابطة العدلية في حالة الجناية المشهودة أو الجنحة المشهودة في حال تعذّر الاتصال بالنيابات العامة أو تمنّع هذه الأخيرة عن إعطاء إشارة قضائية.
عثمان اعتبر أنّ رد الهيئة حمّال أوجه، وأن بإمكانه الذهاب باتجاه تحويل الضابطة العدليّة إلى مرجعيّة قضائية في غيابها. فيما أكّد أعضاء في الهيئة لـ«الأخبار» أن «قرارها كان حاسماً وحازماً لجهة التحديد المُفصّل لمهام الضابطة العدلية وفقاً لأحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية»، مشددين على أن «الهيئة لا تُعطي آراء غامضة وغير مفهومة بل تكون قراراتها واضحة».
مخيبر: مذكّرة عثمان هي لحضّ العسكريين على ارتكاب جريمة


مع ذلك، عمّم عثمان المذكّرة على القطعات الأمنية غير آبه بقرار الهيئة (لا بل استبقه) أو برأي القضاة، وحاول، في الوقت عينه، التأكيد في مذكرته على أنّه يحفظ عن ظهر قلب القانون رقم 17 الذي يُعنى بتنظيم قوى الأمن الداخلي وقانون أصول المحاكمات الجزائية ولا سيّما المواد 40 و41، قبل أن يبرّر قراره بـ«الأوضاع الراهنة واعتكاف قضاة النيابات العامة عن العمل وبالتالي تعذّر الاتصال بهم من قبل القطعات الأمنية التي تقوم بمهام الضابطة العدلية، لا سيما عند وقوع الجريمة المشهودة، الأمر الذي يرتب تداعيات خطيرة على مسار العدالة بشكل عام لجهة مدة التوقيف والحفاظ على الأدلة والمعالم الجرمية أو لجهة الاستجوابات الضرورية وعلى الانتظام الأمني لجهة تفلت المجرمين من العقاب وضياع الحقوق وانعكاس ذلك على صعيد الأمن الاجتماعي».

«مخالفة قانونيّة خطيرة»
هكذا «أفتى» عثمان لنفسه بتحويل الدولة إلى دولة بوليسيّة يكون هو رئيسها، وأهدى رجاله من ضباط وعسكريين سلطةً مُطلقة باحتجاز الحريّات بطريقة غير قانونيّة.
بالنسبة للخبير القانوني والناشط الحقوقي غسّان مخيبر فإنّ هذه المذكّرة «مخالفة قانونيّة خطيرة، إذ لا يسع مساعد الضابطة العدليّة في حال تمنّع الضابطة العدلية عن إعطاء إشارة، اتخاذ أي قرار لأنّ المساعد يعمل تحت إشراف الضابطة العدلية التي تتحمّل مسؤولية عدم اتخاذ القرار المُناسب وليس المساعدون الذين لا يُمكنهم أصلاً اتخاذ قرار الاحتجاز لأنّ القانون يُعطي القاضي مسؤوليّة التحقيق، أمّا القطعات الأمنية فهي تعمل كمساعد».
وذكّر مخيبر بالمادة 48 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تنص على أنّه «إذا خالف الضابط العدلي الأصول المتعلقة باحتجاز المدعى عليه أو المشتبه فيه يتعرض للملاحقة بجريمة حجز الحرية المنصوص والمعاقب عليها في المادة 367 من قانون العقوبات بالإضافة إلى العقوبة المسلكية سواء كانت الجريمة مشهودة أم غير مشهودة».
وعليه، اعتبر النائب السابق أنّ «مذكّرة عثمان هي حضّ للعسكريين على ارتكاب جريمة من نوع الجناية وعقوبتها الأشغال الشاقة»، لافتاً إلى أن «عثمان حاول التذاكي من خلال اجتزاء القانون واختيار ما يُلائمه منه، إذ إنّه ذكر مثلاً المادة 41 ولكنّه اقتطع منها حقوق الشخص المشتبه فيه الذي يجب أن يدلي بأقواله بإرادةٍ ذاتية حرّة ومن دون استعمال أي وجه من وجوه الإكراه ضدّه، وإذا التزم الصمت فلا يجوز إكراهه في الكلام».
واعتبر أنّه كان على عثمان عدم إغفال تذكير مساعدي الضابطة العدليّة باحترام حقوق المشتبه فيهم الواردة في المادة 47، مضيفاً: «نحن أكثر من أي وقت سابق داخل عصفوريّة قانونيّة».
كما شدّد العديد من المّدعين العامين الذين اتصلت بهم «الأخبار» على أنّ برقيّة عثمان «مخالفة للقانون وهي أشبه بفضيحة تنسف المؤسسات ودولة القانون». ويستند هؤلاء إلى المادة 38 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تنص على أنّه «يقوم أشخاص الضابطة العدلية بوظائف الضابطة العدلية تحت إشراف النائب العام لدى محكمة التمييز، النواب العامين والمحامين العامّين. يساعد النيابة العامّة، ويعمل تحت إشرافها في إجراء وظائف الضابطة العدليّة، كل في حدود اختصاصه المنصوص عليه في هذا القانون وفي القوانين الخاصة به: المحافظون والقائمقامون، مدير عام قوى الأمن الداخلي وضباط قوى الأمن الداخلي والشرطة القضائية والرتباء العاملون في القطاعات الإقليميّة ورؤساء مخافر قوى الأمن الداخلي (...)».

قضاة ينتقدون عثمان: يُخالف القانون بهدف توسيع صلاحياته


وبالتالي، يشير القضاة إلى أنّه بإمكانهم «استنابة المدير العام لقوى الأمن الداخلي وتكليفه لمساعدتنا، وليس إعطاء هذه الصلاحية إلى عناصره»، لافتين إلى أن أي قاض لا يُمكن له أن يكون بمثابة نائب عام بيده احتجاز الحريّات إلا بعد أكثر من 10 سنوات من الدرس والخبرة، فكيف يُمكن تسليم هذه المهمّة إلى عسكريين غير ملمين بالقانون، أضف أنه يُمكن استخدام هذه السلطة لتنفيذ مصالح شخصيّة وارتكاب التعسّف بحق الناس وفتح باب للسمسرات».
ويقول أحد المحامين العامين: «ندقق بالشاردة والواردة لأننا نعرف أن الكثير من رتباء التحقيق يقومون بإخبارنا بالرواية على طريقتهم، لإبعاد مشتبه فيهم وتقريب آخرين من دائرة الشك، فكيف يُمكننا ترك هذه المهمّة لهم من دون وجود القضاء الذي يُعد ضمانة الحد الأدنى لحقوق المشتبه فيهم»، متسائلاً: «من يضمن شروط الجريمة المشهودة ومن يضمن أيضاً ترك المشتبه فيه من دون مخابرتنا؟».
مدعٍ عام آخر يؤكّد أنّ برقيّة عثمان هي أشبه بـ«ضرب للمواثيق الدوليّة منذ العام 1948، محاولةً منه لتوسيع صلاحياته وتحويل الدولة إلى دولة بوليسيّة وكأنّ القضاء غير موجود»، لافتاً إلى أنّ «هناك فرقاً كبيراً بين مفهوم إلقاء القبض بالجريمة المشهودة وبين التوقيف الأولي المحددة شروطه في قانون أصول المحاكمات الجزائيّة».
بدوره، يشدد نقيب المحامين ناضر كسبار على أن «هذا الأمر لا يمكن حصوله لأن السلطات تعمل تحت إمرة القضاء». وفيما ينقل كسبار عن أحد المسؤولين أن هذه البرقيّة تم إيقاف العمل فيها بقرار من مجلس شورى الدولة، أكد رئيس «الشورى» القاضي فادي الياس لـ«الأخبار» أن لا علم له بالموضوع ولا يذكر ما إذا كان قرار مشابه قد اتخذ في الشورى.

رد المديريّة
في المقابل، تتكئ مصادر في المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي على آراء قانونيّة لتؤكّد أنّ «قرارها قانوني وهي تحترم من خلال تطبيق هذه المذكرة القوانين المرعيّة الإجراء، خصوصاً لجهة توقيف المشتبه فيهم في جرائم مشهودة»، وسألت: «هل نترك القاتل أو السارق حراً في حال تم القبض عليه وتمنّعت النيابة العامة عن إعطاء الإشارة؟».
أما القضاة فيؤكدون أنّ معظم المدعين العامين والنواب العامين غير معتكفين بل يقومون بممارسة عملهم، مذكرين بمذكّرة أصدرها النائب العام التمييزي القاضي غسّان عويدات منذ نحو شهرين وتقضي بأن تُراجع القطعات الأمنية القاضيين غسان خوري أو صبّوح سليمان في حال لم يرد النائب العام على اتصالاتهم. وعليه، يعتبر هؤلاء أن مذكّرة عثمان هي «فرصة يريدها لتوسيع صلاحياته وضرب القضاء بذرائع واهية».