اتفقت القوى السياسية على أن ذلك الكائن الهجين المسمّى دولة هو المخطئ، وأن الدولة هي المقصّرة وحدها وهي، أي الدولة، لا تقوم بواجباتها، ربما كان هذا التحليل هو الأقرب إلى أذهان اللبنانيين لإيمانهم أن الانتماء إلى دولة القانون هو أمر عسير. ففي ظل عدم تقرير المؤسسات الدستورية واتخاذها لقراراتها إلّا بالإجماع الطائفي يمتنع على كل طرف اتخاذ أي قرار فردي، فكل شيء يجب أن ينال موافقة هذا "الموزاييك".نجحت تجربة مجلس الخدمة المدنية بتعزيز حضور الكفاءات في مؤسسات الدولة، ونجح معهد باسل فليحان كذلك، ولكنها بقيت تجارب لم يُكتب لها الاكتمال.
ما يعانيه اللبنانيون في ظل امتناع قوى إنفاذ القانون عن القيام بواجباتها يستدعي القلق، فأبسط القوانين التي صدر إجماع بضرورة إصدارها وصدرت فعلاً تقتضي التطبيق الفوري. ولن نسرد أبسطها وهو تطبيق قانون أصول المحاكمات الجزائية، التي لا تجيز استمرار التوقيف الاحتياطي التعسّفي، وتحلّ قضية اكتظاظ السجون أو تطبيق قانون تعزيز الضمانات الأساسية وتفعيل حقوق الدفاع، بل سنسرد مثالاً أبسط وهو قانون تجريم إطلاق عيارات نارية في الهواء، القانون رقم 71 تاريخ 27/10/2016.
ففي إحصائية للدولية للمعلومات نُشرت في العام الماضي، تبّين أنه هناك حوالي 22 ضحية بين جريح وقتيل ناهيك عن الأعداد التي لا تُبلّغ بها القوى الأمنية، وكذلك الأمر لجهة التهرّب الضريبي حيث ينعم المخالفون ومرتكبو جرم التهرب الضريبي بالربح الوفير دون تحمّل مسؤولياتهم تجاه أقرانهم، ودون ملاحقة من الجهات المعنية وغيرها من الأمثال التي إن عددناها لاحتاجت إلى مصانع للورق.
جلّ ما نبغي قوله، إن غياب النية والإرادة الرامية إلى تطبيق القوانين، تعني أن هذه البلاد لن تقوم لها قائمة إلّا إذا توافرت إرادة ببناء دولة القانون حيث يُعاقب المخالف. وإلّا ستبقى شريعة الغاب تسيطر على مختلف أنحاء البلاد، حيث ينعم مخالف القانون بمخالفته وسيستمر بارتكاب المخالفات أكثر فأكثر، ويلتزم المواطن الصالح بمزيد من القيود القانونية في وطن يجعله الطرف الأضعف الباحث عن وطن آخر يرتحل إليه بحثاً عن المساواة في الحقوق والواجبات. فإن كانت معالجة الأوضاع الاقتصادية تستحيل عاجلاً على المسؤولين، فعليهم معالجة الحد الأدنى من الأسباب الاجتماعية. فمن المعروف أن من أسباب الهجرة غير الاقتصادية هي الرغبة بالعيش في ظل مجتمع يؤمن بدولة القانون، ما يشكّل انسحاباً من المجتمع الأصلي وهروباً من الفوضى.
من المؤكد أن لمعظم المشاكل الاقتصادية أسباب تندرج ضمن إطار مخالفة القانون الذي أوجد لها حلولاً قانونية، فمخالفة قانون الإثراء غير المشروع ستسبب فساداً وهدراً للمال العام، ما سيصيب البلاد بمشكلة اقتصادية خطيرة وهو أمر نعيشه ونعاني منه بشدة.
القول بخلاف ذلك سيعني حتماً أن صانعي السياسات الحكومية يوجهون رسالة إلى المواطن اللبناني مفادها: إذا ضاقت البلاد فارتحل واصنع وطناً حيث تحط رحالك.