نظّمت الشبكة العربية للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، بالتعاون مع الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان متضمّنة لجنة الوقاية من التعذيب في لبنان ومركز الأمم المتحدة للتدريب والتوثيق في مجال حقوق الإنسان لجنوب غرب آسيا والمنطقة العربية، في بيروت، بين 7 و10 تشرين الثاني، دورة تدريب مدربين في «استقبال الشكاوى ومتابعتها وزيارة أماكن الاحتجاز وإعداد تقارير الرصد». وشارك في الدورة ممثلون عن الهيئات الوطنية لمعظم الدول العربية، فحضر مشاركون من: فلسطين، الأردن، سوريا، مصر، العراق، الجزائر، تونس، المغرب، قطر، البحرين، سلطنة عمان، موريتانيا، جيبوتي، جزر القمر ولبنان.

شاركت في التدريب نخبة من المدربين العرب الذين قدموا عدداً من المواضيع الأساسية للإحاطة بكامل عملية الرصد والتوثيق وتلقّي الشكاوى وكتابة التقارير. وعلى مدى أربعة أيام، ناقش المشاركون المبادئ الأساسية للرصد من خلال معايير الأمم المتحدة الواجبة التطبيق، الاحتجاز وزيارة المحتجزين، والتركيز دائماً على التنبّه للبعد الجنساني لشكاوى حقوق الإنسان خلال كتابة التقارير، وعدم اعتبار النساء من الفئات الهشّة، فهنّ كذلك عندما يتعرّضن للانتهاك فقط. وقد تمّ نقاش هذا العنوان من خلال عرض اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والقوانين الجنائية وقوانين العمل، وقوانين الأحوال الشخصية التي تتضمّن تمييزاً ضد المرأة. وقد اعتمد المدربون خلال الجلسات على طرح العناوين ونقاشها من خلال تجارب المشاركين وطرح مسائل عملية لتحليلها ووضع آليات متابعتها وفقاً للمنهجية التي قدّمها المدربون.
خلال الدورة التدريبية، عرض المشاركون في مداخلاتهم تجاربهم وخبراتهم من خلال الهيئات في دولهم والتي يجمعها العديد من القواسم المشتركة، سواء لناحية آليات العمل وأنواع الانتهاكات، أو لناحية المعوّقات التي تواجهها، الأمر الذي من المفترض العمل عليه ومناقشته لمعرفة كيفية تذليل هذه المعوّقات من خلال إيجاد آليات ملزمة توجّه للحكومات لتسهيل عمل الهيئات الوطنية وتمكينها من القيام بمهامها من دون أيّ عوائق.

توكيل محامين ومراقبة التشريعات
من بين النماذج العربية المتعددة المشاركة في هذا اللقاء الموسّع، قدّم عضو الهيئة الوطنية الفلسطينية لحقوق الإنسان سامي جبارين عرضاً لتجربة الهيئة التي تتصدى للعديد من الملفات والقضايا، وتلجأ إلى القضاء وتوكّل محامين لمتابعة الملفات التي لا يتمكن أصحابها من توكيل محامين وتشكّل قضيتهم قضية رأي عام. وقد حققت الهيئة العديد من الإنجازات، سواء لناحية الطعن في بعض القوانين التي شكّلت انتهاكاً لحقوق الإنسان، أو لناحية تلقي الشكاوى ومتابعتها، أو التصدي عبر محاميها لقضايا مرتبطة بالرأي العام. هذه التجربة الرائدة دلّت على أهمية دور الهيئات الوطنية لحقوق الإنسان والتي تعدّ من المؤسسات الرقابية التي تعمل بالتوازي مع السلطة القضائية من جهة، ومن جهة ثانية لها دور رقابي على السلطة التشريعية حيث لها حق الطعن في القوانين.

شرط التوازن الطائفي
استضاف لبنان الدورة التدريبية التي نظّمتها الشبكة العربية للمؤسسات العربية لحقوق الإنسان. وقدّم أعضاء الهيئة إمكاناتهم لإنجاح هذه الدورة، رغم الظروف العامة المحبطة. رئيس الهيئة والأعضاء المعيّنون وفقاً للصيغة اللبنانية في آليات التعيين، والتي من أولوياتها مراعاة التوازن الطائفي الذي يعدّ من حيث المبدأ انتهاكاً لحقوق الإنسان، يعملون باللحم الحيّ. إلّا أنهم لم يتمكنوا حتى اليوم من تحقيق أيّ خرق يذكر في تفعيل دور الهيئة في ظل الأزمة التي يعانيها لبنان، وخاصة في ما يتعلّق باعتكاف السلطة القضائية وتعرّض الموقوفين احتياطياً لانتهاك واضح باحتجاز الحرية خلافاً للقانون.
جرجس: الدولة لا تريدنا
رغم تشكيلها عام 2019، لم تستطع الهيئة أداء ولو جزء ضئيل من المهام الواسعة التي أناطها بها القانون لأسباب عدة، يعزوها رئيس الهيئة فادي جرجس إلى عدم رغبة السلطات في تفعيل عمل الهيئة ربما بسبب أهمية المهام المناطة بها، والمتمثّلة في رصد مدى تقيّد لبنان بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، ووضع ونشر التقارير الخاصة أو الدورية بشأنها والمساهمة المستقلة في التقارير المتوجّبة على الدولة اللبنانية. ولفت جرجس إلى أن الهيئة تعاني الكثير من المعوّقات التي تتمثّل بعدم توفر مركز تباشر منه عملها، وافتقاد الكادر البشري المتخصص وكل الإمكانات اللوجستية والمالية، إذ يعمل أعضاؤها بمجهود فردي لسدّ الثغَر إلى حين إصدار مرسوم المخصّصات. ويشدّد على أن العمل في مجال حقوق الإنسان لا يجب أن يقاس بالمنظور المادي. لكن في ظل أحكام القانون التي تقضي بالتفرغ الكلي وتمانع الجمع بين عضوية الهيئة وأي عمل آخر، فإن الأعضاء بحاجة إلى الحد الأدنى من المقوّمات التي تساعد على الاستمرارية.

62

أُنشئت الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان المتضمنة لجنة الوقاية من التعذيب بموجب القانون الرقم 62 بتاريخ 27 تشرين الأول 2016، سنداً لمبادئ باريس التي ترعى آليات إنشاء وعمل المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، وبعد ورود العديد من التوصيات للدولة اللبنانية من مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة ومن هيئات المعاهدات الدولية.


وأشار جرجس إلى الدور السلبي الذي تقوم به السلطة التنفيذية في تفعيل عمل الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان بالتخلّف عن إقرار مراسيمها التنظيمية ولا سيّما نظامها الداخلي والمالي ومخصّصات أعضائها وتخصيص مقر لائق لتسيير أعمالها، لتكون مستقلّة عن أيّ سلطة، ولتتمكن من الاضطلاع بفعالية بولايتها المتمثّلة في تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحرّيات الأساسيّة للجميع، على النحو المبيّن في إعلان وبرنامج عمل فيينا، وعلى القيام بذلك وفقاً لمبادئ باريس التي ترعى عمل المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان.
ولفت إلى إعاقات موصوفة من قِبل وزيرَي العدل والمالية منذ تأسيس الهيئة. فقد اعترض وزير العدل على دور الهيئة في رصد انتهاكات حقوق الطفل ومكافحة الاتجار بالبشر، معتبراً أن هذه الصلاحيات تتعارض مع ما تقوم به الضابطة العدلية، «وهذا يدلّ على عدم فهم أو تجاهل لأبسط قواعد عمل الهيئات المستقلة لحقوق الإنسان التي تعمل على تلقي الشكاوى ورصد انتهاكات كل الأجهزة القضائية، بما فيها الضابطة العدلية».
أما وزارة المالية فقد واصلت على مدى السنوات السابقة رفض تطبيق القانون الرقم 273 الصادر عن مجلس النواب، والذي يؤكد أن للهيئة الوطنية باباً مستقلاً في الموازنة على غرار الباب المخصّص للمجلس الدستوري. إلا أنه رغم تحديد تبويب موازنة الهيئة ووظيفتها في باب مستقل في الموازنة الأخيرة، وفق ما ينصّ عليه القانون، فهي لن تستطيع صرف الميزانية المرصودة لها بسبب عدم موافقة مجلس الوزراء على النظام الداخلي والمالي.
ويوضح جرجس أن في لبنان أكثر من 1180 مكاناً لاحتجاز الحرية، ليس بإمكان الهيئة تغطيتها وزيارتها ورصد التجاوزات فيها بسبب عدم توافر الكادر البشري، غير أنها لا تقف مكتوفة الأيدي، بل تحاول إيجاد آليات بديلة لممارسة مهامها من خلال الاستعانة بمتطوّعين يؤمنون بضرورة حماية حقوق الإنسان أو طلب المعونة والمساعدة من جهات دولية، حصراً ضمن مشاريع شراكة مموّلة من منظمات حقوق الإنسان الدولية.

في لبنان أكثر من 1180 مكاناً لاحتجاز الحرية، ليس بإمكان الهيئة تغطيتها وزيارتها ورصد التجاوزات فيها بسبب عدم توافر الكادر البشري


وعن دور الهيئة في ظل إضراب السلطة القضائية، بما فيها النيابات العامة وتأثير ذلك على أوضاع الموقوفين في السجون وأماكن الاحتجاز، رأى جرجس أن الاعتكاف العام للقضاء في لبنان «سابقة لا مثيل لها في العالم ولها تأثير كبير على حقوق الإنسان، ولا سيّما الموقوفين»، ودعا السلطات القضائية إلى ممارسة دورها في تكريس استقلالية الهيئة وتفعيل دورها، من خلال إبداء الرأي في أنظمتها بما لا يخالف مبدأ الاستقلالية، وبما يتوافق مع قانون إنشائها ولا سيّما صلاحيتها لجهة مراقبة النزاع ورصد وتوثيق الانتهاكات المتعلقة بالقانون الدولي الإنساني، وشدد على ضرورة الكف عن الاستنسابية في تطبيق القوانين المتعلقة بحماية وتعزيز حقوق الإنسان وخصوصاً لجهة تجريم التعذيب ومحاكمة مرتكبيه، واحترام الضمانات المكرّسة في التعديل الأخير على المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية.



الدستور يناقض مقدمته
حدد دستورنا في مقدمته مفهوم وشكل الدولة التي نعيش فيها، واضعاً الأسس والقواعد التي على أساسها تسنّ كل القوانين وتحدّد شكل النظام وتحكم العلاقة بين أفراد الشعب والدولة، وذلك من خلال الالتزام بمبدأ احترام الحقوق والواجبات. لكن على أرض الواقع تختلف المفاهيم ويطبّق لبنان في نظامه ما يخالف المعايير الدولية لحقوق الإنسان ويناقض في مواد دستوره بعض ما جاء في مقدمته، فيصنّف مواطنيه على أساس انتمائهم الطائفي ويسلّم الطوائف الحق بإدارة شوؤن مواطنيها في تعليمهم وأحوالهم الشخصية، فينزع عنهم صفة المواطنين ويصبحون مجرّد رعايا لا يعرفون عن الانتماء الوطني ومعناه الحقيقي شيئاً. في ظل هذا التناقض بين النص والواقع وهذا الغياب التام لمفهوم حقوق الإنسان، كيف سنتمكّن من مجاراة تجارب عربية أنجزت وتقدّمت في النص والتطبيق؟