صيف عام 2018، وكجزء من مشروع بحث هدَف إلى بناء أرشيف في جامعة «ماغيل» في كندا عن قصص المرأة والحرب في لبنان، يرتكز على مقابلات مع نساء عايشن الحرب، أو كانت لهنّ تجربة لافتة خلالها، أجرى الأستاذان في الجامعة، ميشيل هارتمن ومالك أبي صعب، مقابلات مع نساء لبنانيات وفلسطينيات كنّ جزءاً من حركات المقاومة بطرق مختلفة. من بين هؤلاء كانت الأسيرة المحرّرة المناضلة نوال قاسم بيضون التي اعتُقِلت في نيسان 1988 لمشاركتها في نضالات المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني وعملائه.

كتبت بيضون أجزاءً من مذكّراتها أثناء فترة اعتقالها، وأكملتها بعد الإفراج عنها. وعمل كل من هارتمن وأبي صعب، جنباً إلى جنب معها، لمساعدتها في نشر هذه المذكّرات في كتاب «مذكرات المناضلة نوال قاسم بيضون في معتقل الخيام (1988-1991)» الصادر عن دار أبعاد، عام 2020. (ترجمه هارتمن وكالين نصرالله إلى الإنكليزية، وحرّره مالك أبي صعب، وصدر في 2021، تحت عنوان " Memoirs of a Militant, My Years in the Khiam Women’s Prison").
أمل أبي صعب وهارتمن أن يساعد هذا المشروع في الحفاظ على التجارب ونقلها للاطّلاع على تاريخ الحرب في لبنان. وحول هذه المذكرات، يشيران إلى أن ما يميّز بيضون عن رفيقاتها الأسيرات، «أنّها كتبت تجربتها تلك، وذلك من أجل أن يستفيد منها كل المقاومين ضد الظلم والطغيان، وكل المهتمين بدراسة تاريخ المرأة في الشرق الأوسط».

من جامعة ماغيل إلى مذكّرات مناضلة
يدرّس أبي صعب، في معهد الدراسات الإسلامية في «ماغيل»، ويؤكد في إحدى المقابلات معه، أنه لا يستند في منهاج المادة التعليمية إلى أي مراجع أو مصادر تنعت المقاومين بـ«المخرّبين»، وهو كان قد اعتبر في لقاء مع «الأخبار» أنّ «المسار النضالي الذي يتبعه حزب الله المتمثّل بتحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي، يشبه إلى حدّ ما مسارات نضالية أخرى في جنوب أفريقيا وفيتنام مثلاً».
(راجع الأخبار، «كيف يدرَّس حزب الله في إحدى أهم جامعات العالم»، 29 آذار 2018)
أما زميلته الكندية، ميشيل هارتمن، التي تدعم «حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها» (BDS)، فقد نشرَت في مجلة «الآداب» عام 2016 مقالاً بعنوان: «لماذا لا يزال النضالُ من أجل فلسطين أمراً مهمّاً، ولماذا ندعم مقاطعة إسرائيل: رؤيةٌ من كندا»، طرحت من خلاله سؤالاً رئيسياً: «لماذا يُعتبر هذا النضالُ مهمّاً اليوم وكيف يمكن أن ننضمّ إليه؟». وتُجيب بأنّ «كثيرين في كندا، كما في أماكنَ أخرى، أدركوا أهمّيّة النضال الفلسطينيّ وتبنّوْه نضالاً رمزيّاً ضدّ الظلم الاستعماريّ». وأكّدت على إدراك «أنّ النضال لتحرير فلسطين هو نضالٌ ضدّ كيانٍ كولونياليّ سافرٍ وفخورٍ بذاته ويَقمع الشعبَ من دون رادع أو خوف من العقاب».
ويشدد أبي صعب وهارتمن على أن مذكرات بيضون «تحدٍّ لفكرة أن المرأة المسلمة فشلت في لعب دور فعّال في المقاومة المسلّحة»، إذ إن بيضون تنتمي إلى جيل من النساء المسلمات في العالم العربي لعِبنَ دوراً مهماً في النضال من أجل التحرّر.
لا أعرف
على امتداد 208 صفحات، تشدّ بيضون القارئ بسلاسة ومهارة سردية واضحة، رغم المشاهد المظلمة وشدّة التعذيب. تنقسم المذكّرات إلى ثلاثة أقسام: الأول يتحدث عن الظروف القمعية التي واجهها الجنوبيون تحت الاحتلال الإسرائيلي أواخر العام 1986، والثاني عمّا بعد الاعتقال عام 1988 وأهوال الحياة اليومية والصراع من أجل البقاء داخل معتقل الخيام على مدار 4 سنوات، وختامها كان مع قصة الحريّة عام 1991، والانتصار «لأن من لا تاريخ له لا مستقبل له، فكان النصر وكانت الحرية» (ص.197)
وُلدت بيضون في بنت جبيل، وتربّت في كنف عائلة مُقاوِمة، حيث اعتادت منذ طفولتها وجود السلاح في البيت (براوننغ)، فوالدها كان منتسباً إلى حركة تحرير فلسطين (فتح)، وكان يشرح لها عن أهمّية اقتناء السلاح للتصدّي للاعتداءات الإسرائيلية. «وعيت على هالشي» كما تقول بيضون، وتشرح كيف بدأ وعيها السياسي بالتطوّر في سن المراهقة، وأنّها كانت تستمع إلى الأناشيد الثورية الفلسطينية كنشيد: «طالعلك يا عدوّي طالع من كل بيت وحارة وشارع» (ص.16) إلى أن وجدت نفسها مجبرة على حمل السلاح لمقاومة هذا الاحتلال. وقررت برفقة مجموعة من الفتيات التنسيق مع شباب المقاومة الإسلامية لتنفيذ عملية اغتيال العميل حسين عبد النبي (عدو النبي كما كانوا يسمّونه) المسؤول عن جهاز أمن ميليشيات العملاء في منطقة بنت جبيل. لكنّ العملية فشلت نتيجة خطأ إحدى الفتيات، بعد تخطيط دام 7 شهور، وفي 19 نيسان 1988 دخلت نوال المعتقل. وبقي المسدس والكاتم سرّها طوال فترة الاعتقال. ولم تعترف بأي شيء سوى بالمعلومات التي ذكرتها إحدى الفتيات المعتقلات قبلها تحت التعذيب.
«حتى تستمر في الحياة، عليك أن تُقنع نفسك بأن وجودك في المعتقل هو نهائي»


أظهرت نوال قوة وشجاعة كبيرتين في هذه التجربة، حيث امتحنت في «صدق إيمانها بالمبادئ التي اعتنقتها»، وكانت عصيّة على التعذيب، بالرغم من جسدها الهزيل، ووضعها الصحي والنفسي السيئ، وكانت تردد باستمرار وتحت جميع أشكال التعذيب جملة واحدة: «لا أعرف».
تذكر بيضون كيف فرِحت ورفيقاتها وشعرن بالفخر بعد سماعهن بمحاولة اغتيال العميل أنطوان لحد على يد فتاة من بلدة دير ميماس تُدعى سهى بشارة، التي رافقت بيضون في ما بعد في الاعتقال، وتشاركنَ حب المقاومة والنضال والقضية، «قضيتك، كقضيتي، الفرق أنني أنا نفّذت العملية وأنتِ اعتُقلتِ قبل ذلك» (ص.185)
«حتى تستمر في الحياة، عليك أن تُقنع نفسك بأن وجودك في المعتقل نهائي» (ص.27) هذه الجملة قد تبدو لمن يقرأها أنّها خرجت من إنسان مستسلم خاضع، لكنّ تجربة نوال في الاعتقال والسجن، تستحق القراءة، لأنّها تسلّط الضوء على حياة المعتقلات اللواتي حرمن من ضوء الشمس والهواء النقي والطعام اللائق. لكن، ما بين طيّات الكتاب سيُبهر القارئ، وسيرسم بسمة على وجهه ذلك الإبداع في ابتكار المعتقلات لأساليب المقاومة داخل المعتقل، والتواصل الروحي والمعنوي مع بعضهنّ ومع بقية الأسرى، من خلال كلمات سرّ أو أناشيد، أو أغان، وحتى رسائل في أكياس الخضار... كل ذلك سيُعطي القارئ انطباعاً بأنّ حياة المعتقل بالرغم من مرارتها، لم تكن يائسة وحزينة بل «كانت حياة تتحدى شقاء السجون، وتعطي الأمل بالانتصار... وهزيمة العدو مهما طال الزمان». وقد وصفت هارتمن وأبي صعب هذه الأساليب بأنّها «استراتيجيات مُلهِمة».



نضال ونصر
بعد التحرّر من المعتقل لم يتوقّف نشاط بيضون النضالي، بل كان هدفها الرئيسي متابعة قضية المعتقلين، فشاركت في تأسيس «الجمعية اللبنانية للأسرى والمعتقلين». ومن أهم نشاطات الجمعية، كان سفر بيضون إلى روما مع وفد ضمّ عدداً من الأسرى المحرّرين، لنقل قضيّة المعتقلين إلى بابا الفاتيكان، إضافة إلى إثارة القضية على الصعيد الدولي من خلال الاحتجاجات، إلى أن تمّ تحرير جميع المعتقلين في سجن الخيام على أيدي المقاومة والأهالي في 23 أيار عام 2000.
دمّر جيش الاحتلال الإسرائيلي معتقل الخيام بشكل كامل عام 2006. ظناً منه بأن تدمير هذا المعلم الذي شهد على جرائمه، سيمحو من الذاكرة تاريخه الإجرامي وعذابات المعتقلين والشهداء الذي سقطوا تحت قوة التعذيب بين جدرانه.
تُنهي بيضون مذكّراتها وشهادتها، بالتأكيد على ضرورة عدم نسيان جرائم العدو الصهيوني وعملائه: «قصّتي في الأسر لا تختلف عن قصص الأسرى، وكتبتها لتبقى في الذاكرة عبر الزمن كي لا ينسينا السِلم ما زرعناه زمن الاحتلال».